الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
قال - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: «ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم {فَتَفْشَلُوا} فتضعفوا وتجبنوا، {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل»..
وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رجلاً قرأ آية، وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فجئت به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفت في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا».. رواه البخاري..
الفشل، الوهن، الخلل، الهلاك.. إنها الكلمات التي تصف حال الاختلاف عندما تنتشر في أوساط المسلمين وبين صفوفهم، إنها تلك الحال التي قلَّ أن ينجو منها مجتمعٌ مسلم في أي بقعة من بقاع الأرض {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118]، إنها تلك الآفة التي لم يسلم منها حتى التيارات الإسلامية التي ترفع شعار الدعوة إلى الله وتطبيق شريعته وتحكيم دينه في الأرض..
إن نماذج الحكم التي قدَّمها الإسلاميون في العقود الماضية، تعدُّ على أصابع اليد الواحدة، لكن محاولات الوصول إلى الحكم يصعب حصرها لكثرتها، وهذا يعني أن نسبة الإخفاق مرتفعة للغاية، بل تكاد تصبح هي الأصل..
فما أسباب الإخفاق؟
ماذا حدث في أفغانستان بعد تحرير كابل من الاحتلال السوفيتي؟ وماذا حدث في الجزائر عندما انقلب الجيش على نتائج الانتخابات التي أظهرت فوز الجبهة؟ وماذا حدث في السودان، عندما تصارع شريكا الحكم فيما بينهما من ناحية، ومع بقية التيارات الإسلامية من ناحية أخرى؟ ماذا حدث في العراق في مرحلة ما بعد الاحتلال؟
إن المتأمل في النماذج الإسلامية المعاصرة للوصول إلى الحكم يمكن أن يلحظ عدة أنماط ثابتة متكررة في أغلب النماذج، وأهمها:
تعدد التيارات الإسلامية المشاركة في محاولة الوصول للحكم.
عجز كثير من التيارات عن صياغة رؤية متوازنة لبناء علاقات إيجابية فيما بينها لتحقيق الأهداف المشتركة.
سبب الإخفاق الأكثر تكراراً هو تصاعد الخلاف بين الإسلاميين وصولاً إلى مستوى الصراع، وربما القتال في بعض الأحيان.
لا شك أنه توجد أسباب كثيرة حالت بين الإسلاميين ونجاحهم في الوصول إلى الحكم في أغلب الدول الإسلامية، لكن السبب الأكثر إلحاحاً هو «الخلافات بين الإسلاميين»، وربما يعضد هذا التوجه أن التجربة الأكثر نجاحاً هي تجربة حزب العدالة التركي، وأبرز ما يميز الساحة التركية، هو خلوها من منافس إسلامي سياسي حقيقي لحزب العدالة، فهل نقول إن التعدد هو سر الإخفاق؟ أم إن الخلافات الناجمة عن التعدد هي الخطر الأكبر؟..
لا نريد الاستغراق في قضية افتراضية بعيدة عن الواقع، فالأصل في أغلب الدول الإسلامية هو تعدد التيارات الإسلامية السياسية، وهذا يجعلنا بحاجة للتركيز على قضية «إدارة التعدد بين الإسلاميين»، إذ يكشف البحث المتأني عن وجود خلل كبير في التعامل مع هذه الحقيقة الواقعية، سواء أكان في مجال العمل الدعوي المباشر، أم في المجال السياسي..
ولعل الملاحظة الأكثر أهمية في هذا المجال، هي أن مناهج التغيير التي صاغتها التيارات الإسلامية، بُنِي أغلبها على افتراض أن منهج كل منها هو المنهج الحق، وأن تحقق الأهداف الإسلامية الكبرى إنما يكون عن طريق هذا المنهج وحده، وبالتالي ينطلق كل تيار من قاعدة أن التطور الإيجابي للمشهد هو أن كافة التيارات الأخرى تتحول إلى منهجه؛ لذا لم تعبأ أكثر التيارات بقضية إدارة التعدد، أو بوضع تصورات للتعاون والتنسيق مع التيارات الأخرى لتحقيق الأهداف المشتركة..
وفي مصر، ساهمت ثورة 25 يناير في ازدحام الساحة السياسية بالمزيد من القوى الإسلامية التي أسست أحزاباً وسعت للمشاركة بقوة في العملية السياسية، وأدى ذلك إلى تعدد الاجتهادات والمواقف السياسية، ومع تعقد المشهد السياسي وتسارعه، فقدَ الإسلاميون القدرة على إدارة التعدد فيما بينهم في اتجاه التعاون؛ لكنهم حافظوا على الحد الأدنى من العلاقة وهو: الحيلولة دون بلوغ مستوى الصدام المباشر، مع وجود جهود تنسيقية في قضايا تفصيلية بعيدة عن السياق العام..
وقد أدى إقبال السلفيين على العمل السياسي عن طريق تأسيس الأحزاب والمشاركة في الانتخابات، إلى ترسخ «الذاتية» لدى التيارات الإسلامية كانعكاس لنشأة الأجنحة السياسية، إذ يهدف الحزب السياسي- بطبيعته - إلى تحقيق رؤيته السياسية عن طريق السعي للوصول إلى الحكم منفرداً في المقام الأول، فإذا عجز عن بلوغه منفرداً، تحالف مع أحزاب أخرى، قد لا تكون إسلامية بالضرورة..
إذن يمكن تلمح النمطين الأول والثاني في الحال المصرية، فهناك تعدد للتيارات الإسلامية، وكذا يوجد قصور في إدارة هذا التعدد، ولو استمرت هذه الحال على نفس المنوال، سيكون عليها أن تصطدم بالنمط الثالث وهو: إخفاق التجربة بسبب الخلافات»...
ما يفاقم من خطورة الوضع هنا، أن الأحزاب الإسلامية، وتحديداً حزبي «الحرية والعدالة» و «النور»، تمكنا من تحقيق أغلبية برلمانية بنسبة 70%، وهذا يعني أنهما الكتلة السياسية الأولى في مصر، بمعنى أن النجاح أو الإخفاق الذي يبدر منهما على صعيد إدارة العلاقة بينهما، ينعكس بصورة مباشرة على مسار الثورة المصرية..
نقول: إن إدارة العلاقة بين الإسلاميين- الإخوان والسلفيين- في مصر لا تتعلق فقط بالمشروع الإسلامي، بل بالثورة نفسها، وبكل تداعياتها الداخلية والخارجية، ولا يخفى أن كثيراً من الأقلام العلمانية شرعت منذ فترة في اتهام التيارين بالتسبب في تراجع مسار الثورة وتقلص المكاسب السياسية..
وإذا كان اختيار مرشح الرئاسة الأحق بالدعم، كان آخر محطات الخلاف بين الإخوان والسلفيين، فإن قطار الخلاف السلفي- السلفي، ما يزال سائراً في طريقه أيضاً، فعلى الرغم من مرور نحو 16 شهراً على نجاح الثورة، فإن الداخل السلفي ما يزال متفرقاً، وما يزال العقد منفرطاً بين تيارات ومجموعات كثيرة تحمل أفكاراً متباينة حول الواقع وطرق التعامل معه، وهذه المجموعات متجددة ومتمددة، وتستقل بآلياتها في تكوين الرؤى والتصورات، وفي اتخاذ القرارات والتحركات، وفي غالب الأحيان تحتفظ بعلاقات متوترة مع الكيانات الإسلامية الكبيرة، بل أحيانا تكون نشأتها على قاعدة الخلاف مع تلك الكيانات، والمؤسف أن بعض هذه المجموعات تتبنى تصوراً هادماً للتيارين الأكبر على الساحة..
وعلى الجانب المقابل، فإن الإستراتيجية التي تتعامل بها الكيانات الكبيرة مع هذه المجموعات يشوبها القصور الشديد، فهي ليست احتوائية، بل ربما كانت إقصائية في بعض جوانبها، كما أنها لا تراعي وجود قطاعات واسعة من الإسلاميين خارج الأطر التنظيمية للتيارين، وهذه القطاعات تتحول مع الوقت إلى مراكز جذب لمنتمين جدد، ممَّا يفاقم من الأزمة..
إن وضعا شائكاً بهذه الصورة، يسمح لخصوم الإسلاميين بتمرير العديد من المؤامرات والمخططات الرامية لإبعادهم عن الساحة، إذ تسمح لهم هذه الوضعية بالاختراق والتحريك والمناورة والاحتواء... إلخ وفي النهاية ينعكس ذلك كله على شعبية الإسلاميين في الشارع الذي لا يملك القدرة على التفرقة والتمييز بين هذه التنوعات الإسلامية الكثيرة، وبالتالي ينعكس أخطاء بعضهم على كلهم، ويخسر الجميع...
إن خطورة الأزمة وإن كانت تتجلى أكثر مع التفريعات الصغيرة في الخارطة الإسلامية، إلا أن علاج هذه الحال السلبية يبدأ من القمة، حيث العلماء الثقات، والقيادات الإسلامية البارزة، والكيانات الكبيرة، فهم الذين يملكون القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة، وهم القادرون على تذليل الصعوبات في طريق لملمة الشمل، وبأيديهم إمكانية المبادرة واتخاذ الخطوة الأولى..
وكلهم مدعو إلى الترويج لثقافة التنازل بين الإسلاميين، امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تطاوعا ولا تختلفا». ولا نقصد التنازل عن الثوابت المنهجية، بل نعني التنازل عن المواقف والاجتهادات السياسية والمكاسب التكتيكية، ولو تعامل الجميع انطلاقاً من هذه الثقافة، فقدم كل طرف تنازلاً جزئياً من جانبه، لاقتربت المسافات وتعانقت الرؤى، ورب خلاف يستعر ولا يهمد، يزول ويتلاشى مع تقديم تنازلات يسيرة جداً.
لقد بلغت الثورة المصرية عنق الزجاجة، فإن تضخمت الخلافات الإسلامية فلن تمر الثورة، ولن تكون نتيجة عملية التحول السياسي إيجابية، للإسلاميين أو لبقية القوى السياسية على حدٍّ سواء.
إن التاريخ يُكتب الآن في مصر، وبين أيدينا تجارب الآخرين ترفع راية النذير، وليس الحل بأن يقدم كل طرف مقاربات نظرية عن دوره في توحيد الصف، ثم تنتهي المقاربة بالكلمة المكررة «ولكن..»، فتُلقى التهمة على «الآخرين» الذين أحبطوا جهود التقريب وليس علينا «نحن»..
إن مثل هذه المقاربات لا تنفع ولا تشفع إذا ما خسرت الثورة وتراجعت التجربة، ولنتذكر قوله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]، قال الطبري في التفسير: «قل لهم: أصابكم هذا الذي أصابكم من عند أنفسكم، بخلافكم أمري وترككم طاعتي»..
وروى الطبري عن الحسن في قوله - تعالى -: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَـجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ 118إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119]، قال: «وأما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافاً يضرهم».
فلا يمكن بحال أن ننفي مسؤولية كل فصيل وكل تيار وكل مجموعة إسلامية عن الفرقة الحاصلة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وهذا التفريق الذي حصل من الأمة علمائها ومشايخها، وأمرائها وكبرائها هو الذي أوجب تسلط الأعداء عليها. وذلك بتركهم العمل بطاعة الله ورسوله كما قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 14]، فمتى ترك الناس بعض ما أمرهم الله به وقعت بينهم العداوة والبغضاء، وإذا تفرق القوم فسدوا وهلكوا، وإذا اجتمعوا صلحوا وملكوا؛ فإن الجماعة رحمة، والفرقة عذاب».. ( مجموع الفتاوى، 3/421).