العهدة العمرية بين سماحة الإسلام ومكر اليهود

منذ كسر شوكة الاستعمار الروماني في معركة اليرموك على يد المجاهدين المسلمين، اهتم المسلمون بالقدس حيث كان هذا الاهتمام نابعاً من العلاقة الوجدانية والدينية الوثيقة التي نماها الإسلام في نفوسهم، وتتمحور هذه العلاقة بتقديس بيت المقدس وتعظيمه، بل بتعظيم شأن الأرض المباركة التي هي أرض المحشر والمنشر وأرض الملحمة الكبرى مع اليهود، ولا يخفى اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بتلك الأرض.
وتم للمسلمين فتح القدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد حصار المسلمين لبيت المقدس، وعندما يئس الروم من المقاومة طلب البطريرك صفرونيوس أن يكون التسليم لأميرهم وهنا تقدم عمرو بن العاص، فقال البطريرك له: لا، إننا نريد أن يكون التسليم لأمير المؤمنين نفسه، فكتب أبو عبيدة لأمير المؤمنين يطلب منه الحضور لأن أهل القدس طلبوا منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه(1).
وجاء عمر رضي الله عنه قاطعاً المسافة من المدينة المنورة إلى بيت المقدس عبر مشاهد من عدالته وتواضعه من غلامه، وهذا كله مسجل في كتب التاريخ والسير.
وقد أعطى عمر بن الخطاب رضي الله عنه معاهدة لأهل القدس تعد من أسمى المعاهدات المتسامحة وأجلها في التاريخ، وأهم ما في هذه المعاهدة:
"بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم، لولا من شئ من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.."(2) وقد شهد على هذه العهدة كل من خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن ابن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان.
ومما لا شك فيه أن هذه العهدة تعد وثيقة وسجلاً تاريخياً مهماً جداً فهي تؤكد أن القدس فتحت صلحاً ولم تفتح عنوة وهذا يؤكد سماحة الإسلام وتسامح المسلمين وأن سلاح العقيدة والإيمان والعقل قبل السيف والرمح والسنان ومن مظاهر الحرية الدينية التي منحها عمر لأهل القدس ما جاء في العهدة أن من أحب أن يبقى على دينه فعلى المسلمين أن يبلغوه مأمنه دون غدر أو خيانة، حتى إن العهدة تركت حرية الإختيار بين البقاء في القدس أو الرحيل عنها، ومنحت أهل القدس (إيلياء) أماناً على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم وممتلكاتهم وكنائسهم.
ولكن أبرز ما في الوثيقة (العهدة) هو الموقف الذي اتخذه أمير المؤمنين من اليهود، اقتناعاً منه وتحقيقاً لرغبة نصارى القدس وهو:"ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود".
فنصارى القدس يعلمون من هم اليهود، ويعلمون مكرهم وحقدهم على المسيح عليه السلام، ولهم مع يهود القدس تجارب مرة لا حصر لها، ولذلك كان طلبهم من أمير المؤمنين أن يرفض إقامة أي يهودي في القدس، وطبعاً عمر يعلم علم اليقين من هم اليهود، ويعرف سابقتهم من الغدر والمكر بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، ومحاولاتهم المتكررة قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ونقضهم للعهود والمواثيق إبان غزوة الخندق.
لقد تكونت لدى الطرفين وجهة نظر متطابقة ونابعة من حقائق تاريخية عاشها الطرفان، وإن بأماكن مختلفة، ولكن حتى لو اختلف المكان والزمان فاليهود هم اليهود، لا يذكرون إلا مقترنين بالغدر والدسيعة والمكر، مع أن الإمعان في صيغة العهدة يدل أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لم يمنع اليهود من دخول القدس لأداء صلواتهم، لكن المنع يتجه نحو مسألة السكنى والإقامة فحسب، وهذا ظاهر من خلال الكلمة المستخدمة في الوثيقة (ولا يسكن)، ومن هنا فإن تسامح المسلمين مع اليهود ظاهر، واستمر فيما بعد ولا سيما في عهد الخلفاء بعد عمر بن الخطاب، حيث عومل اليهود بحلم وتسامح وكانوا يعيشون في المدن الرئيسية فلم يندثروا مع تقلبات القرون، بيد أن الصليبيين ذبحوا عدداً كبيراً منهم حين احتلوا القدس(3).
وتؤكد دائرة المعارف اليهودية أن فتح العرب للبلاد أنقذ يهود فلسطين من الدمار الكامل ، وهذا ما أكده أيضاً المؤرخ اليهودي هيامسون حين قال: "وعملياً فيما يتعلق بيهود فلسطين فإن المسلمين قد جاؤوا كمنقذين وليس كمضطهدين"(4)، والعهدة العمرية التي بين أيدينا ما هي إلا مظهر من مظاهر متسامح الإسلام مع اليهود حيث سمحت لهم بممارسة صلواتهم ولم تمنعهم من الوصول إلى أماكن عبادتهم، إلا أنها منعتهم من الإقامة في القدس تحت رغبة سكان القدس الأصليين من العرب والنصارى على حد سواء.
هذا وقد حاول كثير من اليهود وثلة من المؤرخين الأوروبيين تحريف الوثيقة لتكون عطاءً شاملاً للنصارى واليهود على حد سواء في مسألة الإقامة والسكنى في القدس، وهذا ـ لا ريب ـ مردود بنص المعاهدة الصريح حيث لا مجال للشك أو التحريف، فالعهدة منقولة إلينا في كتب التاريخ الموثقة فضلاً عن أنها موجودة في بطركية الروم الأرثوذكس بكنيسة القيامة في القدس الشريف، إلا إذا كان لدى اليهود وثيقة أخرى نسخوها بأيديهم الخبيثة، ثم قالوا: هذا من عند عمر مثلما حرفوا التوراة ثم قالوا: هذا من عند الله "فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون".
ويحاولون حين لا يجدون آذاناً مصغية أن يلعبوا على التاريخ فيقولون إن العرب في القدس وفلسطين وبلاد الشام كافة هم أخلاف المسلمين الذين خرجوا من شبه الجزيرة العربية عقب المد الإسلامي فهم طارئون على المنطقة دخلاء عليها وعلى سكانها يهوداً ونصارى.
وهذا الزعم متهافت لا تقوم له قائمة، حتى إن دائرة المعارف اليهودية نفسها تقول:" بالذات فلسطين أصبحت بلاداً عربية ليس فقط بسبب الفتح المحمدي، ولكن لأن العرب كانوا قد أتوا مهاجرين لها منذ قرون بعيدة مضت"(5). فهذه حقيقة لا جدال فيها فسكان فلسطين هم العرب منذ أقدم عصور التاريخ وإن الذين عقد معهم عمر بن الخطاب العهدة التاريخية هم عرب اعتنقوا النصرانية وهذا لا ينفي وجود عرب داخل فلسطين قبل الفتح الإسلامي.
فحقيقة أن العرب أسبق من اليهود في المنطقة أمر لا جدال فيه ولا مراء، ولا ريب أن الجهل بهذه الحقيقة قد يكون سنداً تعتمد عليه الدعاية الصهيونية، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
هوامش:
1 ـ تاريخ الطبري ـ الجزء الثالث ص 606.
2 ـ تاريخ الطبري ـ الجزء الثالث ص609.
3 ـ تاريخ فلسطين القديم ص159.
4 ـ المرجع نفسه ص135.
5 ـ تاريخ فلسطين القديم ص153.

إبراهيم محمود الباش

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © الماسة