· من فتاوى العلامة الشيخ يوسف القرضاوي:
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : كنت أريد أن أسأل عن سبب فرض الزكاة ؟ وهل لها أهداف غير الثواب ومساعدة الفقراء والمساكين أم لا ؟ بارك الله جهودكم المتميزة
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد..
فللزكاة أهداف عظيمة ، ونبيلة ، تتعدى الثواب ، ومساعدة الفقراء إلى طهارة نفس الفقير من الحسد ، وطهارة لنفس الغني من الشح البغيض ، وهي طهارة للمجتمع ، والمال ، وهي لنماء المال وتزكيته ، وهي وسيلة فعالة للضمان والتكافل الاجتماعي، وهي وسيلة رائعة للتقريب بين الفقراء والأغنياء ، كما أن لها أهداف أخرى أسمى وأعمق .
وإليك ذلك بالتفصيل في فتوى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله :
(1) الزكاة طهارة لنفس الغني من الشح البغيض. تلك الآفة النفسية الخطرة التي قد تدفع من اتصف بها إلى الدم فيسفكه، أو العرض فيبذله، أو الوطن فيبيعه، ولن يفلح فرد أو مجتمع سيطر الشح عليه وملك ناصيته (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
(2) والزكاة طهارة لنفس الفقير من الحسد والضغينة على ذلك الغني الكانز لمال الله عن عباد الله (الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده) ومن شأن الإحسان أن يستميل قلب الإنسان، كما أن من شأن الحرمان في جانب، والتنعم في جانب، أن يملأ قلوب المحرومين بالبغضاء والأضغان.
(3) والزكاة طهارة للمجتمع كله ـ أغنيائه وفقرائه ـ من عوامل الهدم والتفرقة والصراع والفتن الهوج.
(4) والزكاة طهارة للمال، فإن تعلق حق الغير بالمال يجعله ملوثا لا يطهر إلا بإخراجه منه، وفي مثل هذا المعنى يقول بعض السلف: "الحجر المغصوب في الدار رهن بخرابها" وكذلك الدرهم الذي استحقه الفقير من المال رهن بتلويثه كله. ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أديت زكاة مالك فقد أذهبت عنك شره". وأكثر من ذلك ما روي أنه قال: "حصنوا أموالكم بالزكاة". وما أحوج الأغنياء إلى هذا التحصين، وخاصة في عصرنا الذي عرف المبادئ الهدامة، والثورات الحمراء!!
(5) والزكاة نماء وزيادة، نماء لشخصية الغني وكيانه المعنوي، فالإنسان الذي يسدي الخير، ويصنع المعروف، ويبذل من ذات نفسه ويده، لينهض بإخوانه في الدين والإنسانية، وليقوم بحق الله عليه، يشعر بامتداد في نفسه، وانشراح واتساع في صدره، ويحس بما يحس به من انتصر في معركة، وهو فعلا قد انتصر على ضعفه وأثرته وشيطان شحه وهواه، فهذا هو النماء النفسي، والزكاة المعنوية.
ولعل هذا ما نفهمه من قوله تعالى (تطهرهم وتزكيهم بها) فعطف التزكية على التطهير قد يفيد هذا المعنى الذي ذكرناه، إذ كل كلمة في القرآن لها معناها ودلالتها.
(6) والزكاة نماء لشخصية الفقير، حيث يحس أنه ليس ضائعا في المجتمع، ولا متروكا لضعفه وفقره، ينخران فيه حتى يوديا به، ويعجلا بهلاكه، كلا، إن مجتمعه ليعمل على إقالة عثرته، ويحمل عنه أثقاله، ويمد له يد المعونة بكل ما يستطيع، وبعد ذلك هو لا يتناول الزكاة من فرد يشعر بالاستعلاء عليه، ويشعر هو بالهوان أمامه، بل يأخذ حقه من يد الدولة حرصا على كرامته أن تخدش، ولو قدر للأفراد أن يكونوا هم المعطين بأنفسهم، فالقرآن يحذرهم المن والأذى: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم).
(7) والزكاة نماء للمال وبركة فيه، وربما استغرب ذلك بعض الناس فالزكاة في الظاهر نقص من المال بإخراج بعضه، فكيف تكون نماء وزيادة؟!
ولكن العارفين يعلمون أن هذا النقص الظاهري وراءه زيادة حقيقية: زيادة في مال المجموع، وزيادة في مال الغني نفسه، فإن هذا الجزء القليل الذي يدفعه يعود عليه أضعافه من حيث يدري أو لا يدري.
وقريب من هذا ما نراه في بعض الدول الغنية المتخمة تتبرع بأموال من عندها لبعض الدول الفقيرة، لا لله، ولكن لتخلق قوة شرائية لمنتجاتها.
(8) والزكاة كذلك لها أثر نفسي رائع فنرى أن الدينار في يد رجل تخفق له القلوب بالحب، وتهتف له الألسنة بالدعاء، وتحوطه الأيدي بالحماية والرعاية ـ الدينار مع هذا الإنسان أشد قدرة وأكثر حركة من بضعة دنانير مع غيره، ممن يعيش لنفسه، غريقا في أنانيته، يتمنى الناس له الفشل والإخفاق.
ولعل هذا التفسير الاقتصادي للنماء هو بعض ما تشير إليه آيات القرآن (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم) (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) (يمحق الله الربا ويربي الصدقات).
ولا تنس هنا عمل العناية الإلهية في هذا الإخلاف والإرباء، بغير ما نعرف من الأسباب، والله يؤتي من فضله ما يشاء لمن يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
(9) والزكاة وسيلة من وسائل الضمان الاجتماعي الذي جاء به الإسلام، فإن الإسلام يأبى أن يوجد في مجتمعه من لا يجد القوت الذي يكفيه، والثوب الذي يزينه ويواريه، والمسكن الذي يؤويه، فهذه ضروريات يجب أن تتوافر لكل من يعيش في ظل الإسلام، والمسلم مطالب بأن يحقق هذه الضرورات وما فوقها من جهده وكسبه، فإن لم يستطع فالمجتمع يكفله ويضمنه، ولا يدعه فريسة الجوع والعري والمسكنة. فهكذا علم الإسلام المسلمين أن يكونوا كالجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه اشتكى كله. والزكاة مورد أساسي لهذه الكفالة الاجتماعية المعيشية التي فرضها الإسلام للعاجزين والمحرومين.
(10) والزكاة وسيلة من وسائل الإسلام التي اتخذها لتقريب المسافة بين الأغنياء والفقراء، فالإسلام ـ باعتباره دينا، يعترف بالفطرة ويهذبها ويسمو بها ولا يعلن الحرب لاستئصالها أو مقاومتها ـ قد أقر الملكية الفردية الناشئة عن سبب مشروع، استجابة للدوافع الفطرية الأصلية في الإنسان التي تتطلب التملك والمنافسة والادخار.
وبالتالي يكون الإسلام قد اعترف بالتفاوت الفطري في الأرزاق بين الناس، إذ هو بلا شك ناشئ عن تفاوت فطري آخر في المواهب والملكات، والقدر والطاقات، ولكن هذا الاعتراف بالتفاوت الفطري في الرزق، ليس معناه أن يدع الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقرا، فتتسع الشقة بين الفريقين، ويصبح الأغنياء "طبقة" كتب لها أن تعيش في أبراج من العاج، ويصبح الفقراء "طبقة" كتب عليها أن تموت في أكواخ من البؤس والحرمان، بل تدخل الإسلام بتشريعاته القانونية، ووصاياه الروحية والخلقية، لتقريب المسافة بين هؤلاء وأولئك، فعمل على الحد من طغيان الأغنياء، والرفع من مستوى الفقراء.
(11) والزكاة أمضى سلاح في محاربة الكنز وإخراج النقود من مخابئها في الصناديق أو الشقوق، لتشارك في ميدان العمل والتثمير، بدل أن تبقى قوة معطلة شلاء، ولقد شبه من يحبس المال ويكنزه عن التداول بمن يحبس جنديا في جيش الإسلام عن مزاولة عمله في ميدان الجهاد، وهذا حق، فالدينار المتداول المستثمر جندي يعمل لخدمة الأمة ورخائها وسيادتها، والدينار المخزون المكنوز جندي قاعد أو محبوس.
ولهذا حرم الإسلام الكنز، وأعلن القرآن سخط الله على الكانزين الأشحاء (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون).