الكذب وأزمة الثقة

مما لاشك فيه أن الله عز وجل لم يحرم شيئاً إلا وفيه ضرر للعباد والبلاد , سواء ظهرت الحكمة من التكليف أم لم تظهر , وإن إيمان العبد وامتثاله ما أمر الله به من أشياء قبل أن يعرف الحكمة هو إيمان أقوى , لأنه إيمان يأتي عن تسليم واستسلام , وهذا ما يريده الإسلام من أبنائه أن يستسلموا له ولكن لا مانع من أن يحاول العبد معرفة الحكمة من باب " ولكن ليطمئن قلبي " وإذا ما أسقطنا الأمر على الكذب وبحثنا عن الحكمة لرأينا أن أزمة الثقة التي عنونا بها المقال هي أسوأ ما يفعله الكذب وأقدم بين يدي سطوري هذه القصة الشهيرة .

يحكى أن راعياً كان يرعى غنماً له على أطراف قرية , وذات ليلة قال لنفسه : ترى إذا داهمني سارق أو ذئب فاستنصرت أهل القرية هل يجيرني منهم أحد ؟ لم يكن متأكداً من الجواب ورأى أن التجربة أصدق دليل فراح يصرخ بأعلى صوته يميناً وشمالاً حتى اجتمع أهل القرية لصراخه , هذا يحمل هراوة وهذا يحمل سكيناً وجاؤوا يركضون ولما جاؤوا سألوه أين الذئب ؟ أين قطاع الطريق ؟ لكنه قال لهم بأن شيئاً مما يظنون لم يحدث وإنما أراد اختبارهم , فعادوا أدراجهم إلى منازلهم , وفي الليلة التالية خطر له نفس الخاطر وقال : ترى هل يجيبونني بعدما فعلت البارحة بهم ما فعلت ؟ أم أنهم لا يجيبون ؟ وتذكر أن التجربة أفضل دليل فراح يصرخ واجتمع الناس سريعاً ولكنهم رأوه يضحك وأخبرهم أنه كان يختبر نجدتهم فقط فعادوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة , وفي صدورهم من الغيظ ما الله به عليم .

وذات ليلة وبينما هو جالس إذ بسارق يأتي إليه ويسلبه أغنامه عنوة وهو يصرخ ويبكي ويرفع صوته وأهل القرية يسمعون لكنهم لا يجيبون واستاق السارق الأغنام ومضى وانتهت القصة .

لم يكن أهل القرية في يوم من الأيام غير محبين لفعل الخير , ولكنها أزمة الثقة التي نشأت عندما كذب الراعي , نعم إنها كذلك والأمر يشمل المجتمع بأكمله فإذا كذب طبيب وطبيبان وثلاثة فإن الناس لن يثقوا بالأطباء ويخرج الجميع بقاعدة خاطئة تقول كل طبيب كذاب , وهذا إشكال إذا ترسخ في عقول الناس من أن الأطباء جميعاً كاذبون فإلى أين يذهبون إذا أصابهم المرض ؟ حتى إذا ذهبوا فإنهم لن يستفيدوا لأن ثقة المريض بطبيبه هي الخطوة الأولى على طريق الشفاء .

لو أن محامياً واثنان وعشرة كذبوا وجرى على ألسن الناس أن كل رجل قانون هو كاذب فإلى أين يذهب الناس إذا ما سلبوا حقاً كيف يذهبون ويستجيرون بمن يعتقدون كذبه ؟ .

ولو أن هذا الأمر فشا وانتشر ليعم الشريحة الأوسع من المجتمع كيف يعيش الناس ؟ كي سيستطيع أحدهم أن يأتمن أحداً من الناس وهو يعلم أن الجميع يكذب ؟ لا شك أن الحياة عندها ستصبح جحيماً لا يطاق .

أما الخطر الكبير فهو أنه ومن كثرة الكذب والكذابين صار من الممكن تصديق أن أي رجل في العالم من الممكن أن يكون كاذباً , فإذا قلنا بأن الأمر وصل إلى الدعاة والمصلحين فإنه وصل إلى أعلى درجات الخطر .

ولننتبه إلى أن أعداءنا يسعون في هذا الاتجاه أما قيل عن الإمام أبو زهرة ماسونيٌّ بعدما قدم للأمة ما قدم ؟ أما صدَّق البعض ؟ أما راجت تلك الشائعة ؟ أما قيل عن غيره ما قيل ؟ ألا ترى أنه كل يوم تحاك قصص وافتراءات حول أشخاص هم قدوة لمن وراءهم ؟ الجواب نعم بكل تأكيد وواجب المسلمين أن يحاربوا الكذب بكل ما أوتوا من قوة وأن لا يكونوا أبواقاً لغيرهم ينقلون دون نظر " وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " وواجب المسلم أيضاً أن يتحقق مما يسمع " فتبينوا " وأن  تكون القاعدة لدى المسلمين أن الأصل في الإنسان البراءة حتى يثبت ثبوتاً حقيقياً قطعياً العكس وإلا فأزمة الثقة مؤشر خطر يدل على ضعف الأمة فكيف تكون الأمة قوية وهذه الأزمة قائمة بين أفرادها ؟ .

وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم القائل : " إياكم والكذب " وهذا تحذير شديد وواضح ثم يبين العاقبة فيقول " فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار " إذا لم يعد أحد يثق بأحد ألن تكون العضلات هي الحل الوحيد لحل المشاكل أليس حلها بهذه الطريقة فجوراً ؟ .

c7b0794aackq2

التابعيُّ الجليلُ إبراهيمُ النخعيّ

كانَ إبراهيمُ النخعيُّ رحمهُ اللهُ تعالى أعورَ العينِ.

وكانَ تلميذهُ سليمانُ بنُ مهرانٍ أعمشَ العينِ )ضعيفَ البصرِ(

وقد روى عنهما ابنُ الجوزيّ في كتابهِ [المنتظم] أنهما سارا في أحدِ طرقاتِ الكوفةِ يريدانِ الجامعَ وبينما هما يسيرانِ في الطريقِ

قالَ الإمامُ النخعيُّ:  يا سليمان! هل لكَ أن تأخذَ طريقًا وآخذَ آخرَ؟

فإني أخشى إن مررنا سويًا بسفهائها، لَيقولونَ أعورٌ ويقودُ أعمشَ!  فيغتابوننا فيأثمونَ.

فقالَ الأعمشُ: يا أبا عمران! وما عليك في أن نؤجرَ ويأثمونَ؟!

فقال إبراهيم النخعي : يا سبحانَ اللهِ! بل نَسْلَمُ ويَسْلَمونُ خيرٌ من أن نؤجرَ ويأثمونَ.

المنتظم في التاريخ (7/15).

نعم! يا سبحانَ اللهِ!

أيَّ نفوسٍ نقيةٍ هذهِ؟!

والتي لا تريدُ أن تَسْلَمَ بنفسها.

بل تَسْلَمُ ويَسْلَمُ غيرُها.

إنها نفوسٌ تغذَّتْ بمعينِ ((قَالَ يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)).

كنتُ أتساءلُ كثيرًا. لو كانَ إبراهيمُ النخعيُّ يكتبُ بيننا.

هل تُراهُ كانَ يُعممُ كلامهُ، ويُثيرُ الجدالَ، وَيُوهِمُ الآخرينَ، ويُورِّي في عباراتهِ،

ويطرحُ المُشكلَ بلا حلولٍ؛ ليؤجَرَ ويأثَمَ غيرهُ؟!!!

أم تُراهُ كانَ صريحًا ناصحًا، وبعباراتهِ واضحًا؟!

وَرَضِيَ اللهُ عن عمرَ إذ كانَ يسألُ الرجلَ فيقولُ: كيف أنت؟

فإن حمدَ اللهَ.

قال عمرُ : (( هذا الذي أردتُ منكَ )).

رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني.

تأمل معي .. إنهم يسوقونَ الناسَ سوقًا للخيرِ؛ لينالوا الأجرَ

)) هذا الذي أردتُ منكَ.. ((

أردتك أن تحمدَ اللهَ فتؤجرَ.

إنهُ يستنُّ بسنة حبيبهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ إذ ثبتَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ مثلُ ذلكَ.

فهل نتبع سنة حبيبنا صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلَّمَ؟

أوَ ليسَ :

نَسْلَمُ ويَسْلَمونَ

خيرٌ من أن :

نُؤجَرُ ويأثمونَ؟!!!

clip_image001 clip_image001[1] clip_image001[2]

عزيز عليه ما عنتّم

د.عثمان قدري مكانسي

 تمت بيعة العقبة الثانية في السنة الثالثة عشرة للبعثة : وكان من بنودها أن يهاجر المسلمون من مكة إلى إخوانهم في يثرب ، فموطن الإتسان الحقيقي وداره التي يجب أن يسعى إليها ، ويعيش فيها ، ذلك المكان الذي يتعبّد فيه بحريّة ، ويقيم فيه شعائره دون أن يكون عليه رقيب ، ويحسُّ فيه بشخصيته ، ويصنع فيه مع إخوانه في العقيدة مجتمعاً مسلماً . . إنها المدينة المنوَّرة إذاً . .

وأمر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين أن يهاجروا إليها ، والهجرة ليست أمراً سهلاً ، فهي إهدار للتجارة وتضحية بالمصالح المادية ، يترك الإنسان متجره ، وأرضه الزراعية ، ومصنعه ، وبيته الذي تعب في إنشائه ، وقد يدع أهله وأولاده ومَنْ يحب لينجو بنفسه ودينه . . ولا مفرَّ من التضحية وإن كانت فادحة الثمن ليكسب ما هو أثمن وأغلى وأدوَمُ . . .

وبدأ المسلمون يهاجرون . . كلٌّ بطريقته ، وبدأ المشركون يتعقَّبونهم ويمنعونهم لشعورهم أنَّ مَنْ يترك كلَّ شيء لا بدَّ أن يكون في نفسه قوياً ، وسيعود ليهددهم في عقر دارهم ، ويستعيد حقّه ، ويقضي عليهم . وكان هناك نماذج من المنع .

1 ـ لما أراد صهيب رضي الله عنه الهجرة جعل ماله في مكان آمن ثم انطلق نحو المدينة ، فأحسَّ به المشركون ، فقد كان حانوته ـ مصنع الحدِادَةِ للسيوف وأسّنةِ الرماح ـ مغلقاً . . وطاردوه بخيولهم حتى صاروا على مقربةٍ منه ، فشعر بهم وأسرعَ إلى تلٍّ قريب يشرف عليهم وانتضى أحد سهامه ووضعه في قوسه وسدَّد نحوهم ، فلما عرفوا فيه صدق ما انتواه قالوا : ما أنتَ فاعل يا صهيب ؟

قال : ولأيِّ شيء تبعتموني يا أعداء الله ؟!

قالوا وقد كشروا عن نواياهم الخبيثة : أتيتنا صعلوكاً حقيراً فكثر مالك عندنا ، وبلغتَ الذي بلغتَ ، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك ؟

قال لهم : تعلمون أنني والله أشدكم إصابة للهدف ، وأن سهمي لا يخيب ولن تصلوا إليَّ حتى تفرغ سهامي وأقتل بكل سهم رجلاً .

قالوا : هات مالك نَعُدْ أدراجنا .

قال : لا أحمل منه شيئاً وقد تركته في مخبأ في مكة .

قالوا : دلّنا عليه إذاً . .

قال : هو في مكان كذا وكذا وأنتم تعلمون صدقي .

فانطلقوا إلى ذلك المكان الذي حدَّدَه ثم توقف أحدهم ، فقال ألا يكون كاذباً في قوله لنا آنفاً ؟

قالوا له : نحن نعرف أصحاب محمد لا يكذبون . . فقد رأوا المال في المكان لذي حدّدَه .

وحين وصل إلى المدينة المنوّرة استقبله رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ باشّاً ، فرحاً بقدومه قائلاً له : (( ربح البيع أبا يحيى ، ربح البيع أبا يحيى )) .

2 ـ كان أبو سلمة رضي الله عنه أوّل المهاجرين ـ قبل العقبة الكبرى بسنة ـ وخرج بزوجته أم سلمة وابنه سلمة ، فلما أجمع الخروج قال له أصهاره : لا نستطيع أن نغلبك على نفسك ، أما زوجتك فهي ابنتنا ، فعلام نتركك تسير بها في البلاد ، لا والله لا تأخذها ، فانتزعوها منه ومعها ابنها .

غضب آل أبي سلمة حين رأوا أهل زوجته قد منعوها أن تسافر معه فقالوا : هذه ابنتكم حبستموها ، فعلام نترك سلمة معها ؟ والله لا نترك ابننا معها ، وتجاذبوا الغلام بينهم فخلعوا يده ، وذهبوا به .

وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة ، وكانت أم سلمة بعد ذهاب زوجها ، وضياع ابنها ، تخرج كل صباح إلى خارج المنازل تبكي على تشتت أسرتها حتى تمسي . . ومضى على ذلك سنةٌ ، فرَقَّ لها أحد ذويها ، وقال : ألا تخرجون هذه المسكينة ؟!! فرَّقتم بينها وبين زوجها وابنها ، فرَقّوا لها وقالوا لها : الحقي بزوجك إن شئت ، فاسترجعت ابنها من عصبته ، وخرجت تريد المدينة وليس معها أحدٌ مِنْ خلق الله . . والمدينة تبعد عن مكة ثلاث مئة ميل ، ولكنْ ما تقول في قسوة القلوب ، وجفاء الطبع ؟!! حتى إذا كانت بالتنعيم ـ خارج مكة صوب المدينة ـ لقيها عثمان بن طلحة بن أبي طلحة قال لها : هل أفرج عنك يا أمَّ سلمة ؟ وكان يعرف حالها ، قالت : نعم . . قال : أزمعت اللحاق بزوجك ؟ قالت : نعم فلم تطب نفسه أن يتركها تسير وحدها لا معين لها ، فشيعها إلى المدينة ـ وهو صاحب نخوة ومروءة ـ فلما نظر إلى قباء قال : زوجك في هذه القرية ثم انصرف راجعاً إلى مكة .

2 ـ تواعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعياش بن أبي ربيعة المخزومي وهشام بن العاص بن وائل موضعاً يصبحون عنده ، ثم يهاجرون إلى المدينة المنوّرة ، إلا أن هشام بن العاص حبسه أهله حين علموا بعزمه مغادرة مكة فهاجر عمر وعياش وحدهما ، ولما قدما المدينة نزلا بقُباء . . ولم تمض مدة حتى قدم إلى قباء أبو جهل وأخوه الحارث يريدان عيّاشاً ـ وأم الثلاثة واحدةٌ ـ فقالا له : إن أمك نذرت أن لا يمس رأسها مشط ، ولا تستظل بشمس حتى تراك ، وكان باراً بأمه ، محباً لها ، فرقَّ قلبه ، وأزمع السفر إلى مكة ، فقال له عمر : يا عياش ؛ والله ، إن القوم يريدون أن يفتنوك عن دينك ، ويحبسوك ، ويعذبوك ، فاحذرهم ، فوالله لو كثر القمل في رأس أمك لامتشَطَتْ ، ولو قد اشتد عليها حرُّ مكة لاستظلت ، وما هذان إلا كاذبان مدّعيان . فأبى عياش إلا الخروج معهما ليَبَرَّ قَسَمَ أمه

فقال له عمر : إذا أبيت نصيحتي وقررت الخروج معهما ، فخذ ناقتي هذه ، فإنها ناقةٌ أصيلة ذلول ، فالزم ظهرها ، وراقبهما ، فإن رأيت في القوم ريبة فانج عليها .

فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا في بعض الطريق ، يلينان له القولَ ويبتسمان في وجهه ، قال أبو جهل : والله يا أخي ؛ إنَّ بعيري هذا غليظ هجين ، أفلا تردفني على ناقتك هذه ؟ قال عياش : بلى ، فأناخ ناقته ، وأناخا ليتحول أبو جهل عليها ، فلما استووا بالأرض عَدَوَا عليه ، وأوثقاه ، وربطاه ، وظل هكذا على حالته هذه حتى وصلوا إلى مكة فدخلوها نهاراً ليراه الجميع مكبلاً ، فلا يجرؤ أحد على الهجرة ، ومخالفة المشركين ، وقالا : يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا !!

وبقي عياش في قيد الكفار حتى إذا هاجر رسول الله ـ صلى الله علي وسلم ـ قال يوماً : (( مَن لي بعيّاش وهشام ؟! فقد طال أسرهما وأرجو الله أن يفرّجَ عنهما . . فهما محبوسان في بيت لا سقف له إمعاناً في التعذيب ، تلفحهما الشمس في النهار ، ويؤذيهما البرد في الليل ، وتحمل إليهما طعامهما امرأة )) .

قال الوليد بن الوليد : أنا لك يا رسول الله بهما .

قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( سِرْ على بركة الله )) .

فقدم الوليد مكة مستخفياً ، ولقي المرأة تحمل طعامهما ، فتبعها حتى عرف موضعهما ، فلما أمسى تسوَّر الجدار ، وقطع قيدهما ، وحملهما على بعيره حتى قدم المدينة .

ولا تسل عن فرحة رسول الله ـ صلى الله عليبه وسلم ـ والمسلمين بهم حميعاً .

عين تبوك

د.عثمان قدري مكانسي

قال الصحابة رضوان الله عليهم : يا رسول الله قلَّ الماءُ ، فما نكاد نجد ماءً . قالوا ذلك وهم منطلقون إلى غزوة تبوك .

قال : (( تشربون إن شاء الله تعالى )) .

فما إن ساروا ساعات حتى قال لهم رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : (( إنكم ستأتون غداً إن شاء الله تعالى عين تبوك ، وإنكم لن تأتوها حتى يُضحي النهارُ ، فمن جاءها فلا يمسَّنَّ من مائها حتى آتي )) .

وانطلق الجيش يغذُّ السبر ليله حتى أصبح ، فقاموا يتيممون لصلاة الفجر ، فلما أدّوها تابعوا المسير حتى وصلوا عين الماء فوجودها لا ماء فيها سوى رشح ضئيل لا يكفي أحداً .

سأل رسول الله أصحابه : (( هل مسّها أحدٌ ؟ )) قالوا : يا رسول الله سبقنا إليها فلان وفلان وكانا منافقين فلم يأبها لأمر رسول الله  صلى الله عليه وسلم  حين نهى عن مسِّها وشربا منها ، فلعن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  المنافقين ثم قال : (( ألم أنهكم أن تمسّوها ؟! فسكتا وعيونهما تنبئ عن غضب دفين ، ثم نزل إلى العين ووضع يده تحت الوشل (( الطين المبلول )) فجعل يصب في يده ما شاء الله أن يصبَّ حتى اجتمع له قليل من الماء ، توضأ منه ثم نضحه في العين ، ودعا بما شاء الله أن يدعو به . .

ولم تمض هنيهة حتى كبر المسلمون وهللوا ، وصلوا على نبيهم الكريم ذي الفضل العظيم ، فقد رأوا بأعينهم وسمعوا بآذانهم . . فماذا رأوا وماذا سمعوا ؟!! .

لقد تفجّر الماء من الصخر انفجاراً فملأ النبع واندفع بقوّة في مجراه ، يتسع ويتّسع ، وسمعوا لانفلاق الصخر صوتاً كحسِّ الصواعق ، وانفلق مُؤذناً للماء الحبيس أن ينطلق . .

فشرب الناس ، واستقوا حاجتهم منه ، وملؤوا أوعيتهم وسقوا دوابّهم .

قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم  : (( لئن بقيتُم ، أو بقي منكم ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب ما بين يديه وما خلفه )) .

وتبوك الآن واحة رائعة الاخضرار كثيرة الماء ، واسعة الانتشار . .

اللهم صلِّ على المبارك محمد ، واحشرنا معه في زمرة عبادك الصالحين اللهم آمين .

هذا النبي وعين الله تكلؤه             قد فجَّر الأرض بالأمواه تندفع

يسقي العطاش بإذن الله خالقِنا     وكم بفضل رسول الله ننتفع

وها هي الماء حتى الآن جارية         وفي تبوك غراس الخير تتسع

قد أكرم الله بالمختار أمته             على هداه إذا سرنا سنرتفع (1)

(1)  الأبيات للمؤلف

أُحب الشتاء ..

محمود القلعاوي /مصر

إمام وخطيب بوزارة الأوقاف

أحب الشتاء هذا الضيف العزيز الذى طالما اشتقنا إليه ونحن نمسح عنا عرق الصيف الملتهب ..

أحب الشتاء وأشعر بالسعادة عند قدومه ..

أحب الشتاء وكم أشتاق إليه فى وسط لهيب الشمس ..

أحب الشتاء وأرى فيه الخير ، أرى فيها القرب من الرحمن .. أراها يذكرنى بالنار وشدتها ..

أحب الشتاء حيث أرى فيها الوقت الطويل لأنجز ما أريد من قراءة وكتابة ..

أحب الشتاء حيث اقترب فيها من ربى فهى ربيع المؤمن كما ورد ..

_____________________

كله خير ..

يقول فضيلة الأستاذ عبد الرحمن سعد - صحفي مصري في جريدة الأهرام :- ( ليس من المبالغة أن يُقال إن فصل الشتاء كله خير.. ويكفي أن برده وصقيعه يذكران بزمهرير جهنم ، بل إن طينه وترابه الذي يذوب ويرخو بفعل مياه الأمطار المنهمرة فيه لمما يوجه دعوة إلى ذلك الكائن الضعيف المخلوق من هذا الطين ( الإنسان ) بأن يرق قلبه، وتلين جوارحه لذكر ربه. قال تعالى :- ( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) سورة الحديد:16 ..

_____________________

ربيع المؤمن ..

وقد أخرج لنا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال :- ( الشتاء ربيع المؤمن ) وأخرجه البيهقي رحمه الله وغيره وزاد فيه :- ( طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه ) ..

ويقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله :- ( إنما كان الشتاء ربيع المؤمن ؛ لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات

، ويسرح في ميادين العبادات ، ويتنزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه ، كما البهائم في مرعى الربيع فتسمن وتصلح أجسادها ، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسر الله فيه من الطاعات ،

فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة ولا كلفة تحصل له من جوع ولا عطش ،

فإن نهاره قصير بارد، فلا يحس فيه بمشقة الصيام ) كتاب لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف

_____________________

الغنيمة الباردة ..

كتب الدكتور محمد الرمانى - عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الوقفة الثانية :- ( والشتاء هو الغنيمة الباردة :- ففي المسند وعند الترمذي رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :- ( الصيام في الشتاء الغنيمة الباردة ) .. وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول :- ألا أدلكم على الغنيمة الباردة. قالوا بلى. فيقول الصيام في الشتاء. ومعنى كونها غنيمة باردة، أنها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة.

وأما قيام ليل الشتاء فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظها من النوم ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة فيقرأ المصلي ورده كله من القرآن وقد أخذت نفسه حظها من النوم فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه.

يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :- مرحباً بالشتاء تنزل فيه البركة ، ويطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام.

وعن الحسن البصري رحمه الله قال :- نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه. وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنه كان إذا جاء الشتاء قال :- يا أهل القرآن طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا، قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف.

ولهذا بكى معاذ رضي الله عنه عند موته وقال :- إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حِلَق الذكر.

وذلك بخلاف ليل الصيف فإنه لقصره وحره يغلب النوم فيه، فلا تكاد تأخذ النفس حظها بدون نومه كله، فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة وقد لا يتمكن فيه لقصره من الفراغ من ورده من القرآن ) ..

_____________________

النار وزمهريرها ..

ففى هذه الليالى شديدة البرد أجدنى أتذكر النار .. فيلهج اللسانى بالإستعاذة من النار وزمهريرها .. فكما علمنا سلفنا الصالح أن نربط ما نراه فى دنيانا بآخرتنا .. فذكر الآخرة يزيد المرء إيماناً على إيمانه .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :- ( اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب. أكل بعضي بعضاً فجعل لها نفسين ؛ نفس في الشتاء ونفس في الصيف فشدة ما تجدون من البرد من زمهريرها وشدة ما تجدون من الحر من سمومها ) متفق عليه ..

فتذكر أيها الحبيب شدة زمهرير جهنم بشدة البرد القارس في الدنيا ، يقول أحد الزهاد :- ( ما رأيت الثلج يتساقط إلا تذكرت تطاير الصحف في يوم الحشر والنشر ).

_____________________

فلا تنسَ الفقراء  أيها الكريم ..

وهنا يقول فضيلة الأستاذ عبد الرحمن سعد - صحفي مصري في جريدة الأهرام :- لا شك أن إيثار الفقراء في الشتاء بما يدفع عنهم غائلة البرد خلال ذلك الفصل له فضل عظيم، وأجر كبير.. فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال :- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:- ( من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ) متفق عليه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :- ( من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ) متفق عليه

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود رضي الله عنه قال :- ( يُحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط ، وأظمأ ما كانوا قط ، فمن كسا لله عز وجل كساه الله ، ومن أطعم لله أطعمه الله ، ومن سقا لله سقاه الله ، ومن عفا لله عفا الله عنه ) رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال" ص/ 232  ..

جميع الحقوق محفوظة © الماسة