مما لاشك فيه أن الله عز وجل لم يحرم شيئاً إلا وفيه ضرر للعباد والبلاد , سواء ظهرت الحكمة من التكليف أم لم تظهر , وإن إيمان العبد وامتثاله ما أمر الله به من أشياء قبل أن يعرف الحكمة هو إيمان أقوى , لأنه إيمان يأتي عن تسليم واستسلام , وهذا ما يريده الإسلام من أبنائه أن يستسلموا له ولكن لا مانع من أن يحاول العبد معرفة الحكمة من باب " ولكن ليطمئن قلبي " وإذا ما أسقطنا الأمر على الكذب وبحثنا عن الحكمة لرأينا أن أزمة الثقة التي عنونا بها المقال هي أسوأ ما يفعله الكذب وأقدم بين يدي سطوري هذه القصة الشهيرة .
يحكى أن راعياً كان يرعى غنماً له على أطراف قرية , وذات ليلة قال لنفسه : ترى إذا داهمني سارق أو ذئب فاستنصرت أهل القرية هل يجيرني منهم أحد ؟ لم يكن متأكداً من الجواب ورأى أن التجربة أصدق دليل فراح يصرخ بأعلى صوته يميناً وشمالاً حتى اجتمع أهل القرية لصراخه , هذا يحمل هراوة وهذا يحمل سكيناً وجاؤوا يركضون ولما جاؤوا سألوه أين الذئب ؟ أين قطاع الطريق ؟ لكنه قال لهم بأن شيئاً مما يظنون لم يحدث وإنما أراد اختبارهم , فعادوا أدراجهم إلى منازلهم , وفي الليلة التالية خطر له نفس الخاطر وقال : ترى هل يجيبونني بعدما فعلت البارحة بهم ما فعلت ؟ أم أنهم لا يجيبون ؟ وتذكر أن التجربة أفضل دليل فراح يصرخ واجتمع الناس سريعاً ولكنهم رأوه يضحك وأخبرهم أنه كان يختبر نجدتهم فقط فعادوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة , وفي صدورهم من الغيظ ما الله به عليم .
وذات ليلة وبينما هو جالس إذ بسارق يأتي إليه ويسلبه أغنامه عنوة وهو يصرخ ويبكي ويرفع صوته وأهل القرية يسمعون لكنهم لا يجيبون واستاق السارق الأغنام ومضى وانتهت القصة .
لم يكن أهل القرية في يوم من الأيام غير محبين لفعل الخير , ولكنها أزمة الثقة التي نشأت عندما كذب الراعي , نعم إنها كذلك والأمر يشمل المجتمع بأكمله فإذا كذب طبيب وطبيبان وثلاثة فإن الناس لن يثقوا بالأطباء ويخرج الجميع بقاعدة خاطئة تقول كل طبيب كذاب , وهذا إشكال إذا ترسخ في عقول الناس من أن الأطباء جميعاً كاذبون فإلى أين يذهبون إذا أصابهم المرض ؟ حتى إذا ذهبوا فإنهم لن يستفيدوا لأن ثقة المريض بطبيبه هي الخطوة الأولى على طريق الشفاء .
لو أن محامياً واثنان وعشرة كذبوا وجرى على ألسن الناس أن كل رجل قانون هو كاذب فإلى أين يذهب الناس إذا ما سلبوا حقاً كيف يذهبون ويستجيرون بمن يعتقدون كذبه ؟ .
ولو أن هذا الأمر فشا وانتشر ليعم الشريحة الأوسع من المجتمع كيف يعيش الناس ؟ كي سيستطيع أحدهم أن يأتمن أحداً من الناس وهو يعلم أن الجميع يكذب ؟ لا شك أن الحياة عندها ستصبح جحيماً لا يطاق .
أما الخطر الكبير فهو أنه ومن كثرة الكذب والكذابين صار من الممكن تصديق أن أي رجل في العالم من الممكن أن يكون كاذباً , فإذا قلنا بأن الأمر وصل إلى الدعاة والمصلحين فإنه وصل إلى أعلى درجات الخطر .
ولننتبه إلى أن أعداءنا يسعون في هذا الاتجاه أما قيل عن الإمام أبو زهرة ماسونيٌّ بعدما قدم للأمة ما قدم ؟ أما صدَّق البعض ؟ أما راجت تلك الشائعة ؟ أما قيل عن غيره ما قيل ؟ ألا ترى أنه كل يوم تحاك قصص وافتراءات حول أشخاص هم قدوة لمن وراءهم ؟ الجواب نعم بكل تأكيد وواجب المسلمين أن يحاربوا الكذب بكل ما أوتوا من قوة وأن لا يكونوا أبواقاً لغيرهم ينقلون دون نظر " وتحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم " وواجب المسلم أيضاً أن يتحقق مما يسمع " فتبينوا " وأن تكون القاعدة لدى المسلمين أن الأصل في الإنسان البراءة حتى يثبت ثبوتاً حقيقياً قطعياً العكس وإلا فأزمة الثقة مؤشر خطر يدل على ضعف الأمة فكيف تكون الأمة قوية وهذه الأزمة قائمة بين أفرادها ؟ .
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم القائل : " إياكم والكذب " وهذا تحذير شديد وواضح ثم يبين العاقبة فيقول " فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار " إذا لم يعد أحد يثق بأحد ألن تكون العضلات هي الحل الوحيد لحل المشاكل أليس حلها بهذه الطريقة فجوراً ؟ .