أصول مواحق الطاعات**2**

clip_image001

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

بعد أن عرفنا في الجزء الأول من الدراسة الأصل الأول من مواحق الطاعات ألا وهو الرياء ننتقل في هذا الجزء إلى الأصلين الأخريين وهما:

2)  ذنوب ومعاصي الخلوات:

ثاني أصل من أصول المواحق والمحبطات ، انتهاك محارم الله في الخلوات ، بحيث ترى العبد في ظاهره فإذا هو حريص على الطاعة مداوم عليها بشتى أنواعها ، منخرط في صفوف الصالحين ، مقبل على كل أبواب الخير والمعروف ، يعب منها عبا، شغوف بكل عمل صالح مهما صغر، ولكنه إذا خلا بنفسه واختفى عن أعين الرقيب من البشر ، تجرأ على الآثام ونزع لباس الحياء ووقع في الحمى ، وتخلص من قناع الورع والتقوى والخشية  وانتهك محارم الله وتجاوز الخطوط الحمر ، وتخلص من ربقة الصلاح وغرق في براثن الرذيلة حتى النخاع، مستمرئا المعصية ، غافلا عن مراقبة مولاه ، جاعله أهون الناظرين إليه ، مستهترا وغير آبه بالرقيبين الملازمين من الملائكة ، طاويا لصفحة الإيمان ولو لفترة مؤقتة ، فيكون ذلك سببا في فري طاعته فريا ومحقها محقا ، وجعلها هباء منثورا.

هذا المآل السيئ والمصير المرعب يصوره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محذرا وناصحا ومبينا العاقبة الوخيمة لهذا الفعل   المداومة على ذنوب الخلوات   يوم القيامة ، ومحوه لرصيد الصالحات مهما كثرت ، وهدمه لجبال الحسنات مهما عظمت ،ومحقه لخزان الطاعات مهما كان ممتلئا ، وإحباطه لصندوق الأعمال مهما كان عامرا، ويحشر العبد بعد ذلك خالي الوفاض ، فارغ اليدين ، فاقدا لأسباب النجاة بعد ظنه أنه قد أحسن صنعا، عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا ، فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ، قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ ، وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)( سنن ابن ماجه).

ماأخطر ذنوب الخلوات ، وما أبشع معاصي السر ، وما أشد آثام الإنفراد، أعمال أمثال جبال تهامة تجعلها هباء منثورا ، وتردها قاعا صفصفا ،إضافة إلى أنها تهتك الستر وتورث الفضيحة ، كما قال ابن القيم :(للعبد ستر بينه وبين الله ، وستر بينه وبين الناس، فإن هتك الستر الذي بينه وبين الله ، هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس).

لذلك نفقه لماذا كان من دعاء النبي  صلى الله عليه وسلم:(أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)(جزء من حديث رواه أحمد والنسائي).

فالنجاة كل النجاة ، والسلامة كل السلامة أن ترافق العبد خشية الله ومراقبته في الغيب والشهادة ، في السر والعلانية ، في الظاهر والباطن ، في الخلطة والخلوة، فإن وفقه الله لذلك وثبته عليه وختم له به ، فليتأكد من علو مقامه عنده في الدارين كما قال ابن عطاء:(إذا أردت أن تعرف عند الله مقامك ، فأنظر فيما أقامك).

فقمة الخسران أن يكيل العبد بمكيالين بين ظاهره وباطنه ، بين الناس وخالقه ، فيظهر لهم الصالح من أعماله ، فإن هو اختلى بربه بارزه بالمعاصي  ، كما قال ابن الأعرابي:(اخسر الخاسرين من أبدى للناس صالح أعماله وبارز بالقبيح من هو اقرب إليه من حبل الوريد)(10).

ولخطورة هذا الأمر على عمل المؤمن ، كان الإمام أحمد رحمه الله يستحسن قول الشاعر ويكثر من ترديده:

إذا ماخلوت الدهر يوما فلا تقل               خلوت ولكن علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة               ولا أن ما نخفيه عنه يغيبُ

فمنتهك المحارم في الخلوات لايخرج من اثنين ، إما أنه جريء على ربه ، وإما أنه مستهزئ به   والعياذ بالله  ، قال سليمان بن عبد الملك لحميد الطويل): عظني، فقال له: إن كنت عصيت الله وظننت أنه يراك فلقد اجترأت على رب عظيم ، وإن كنت تظن أنه لايراك فلقد كفرت برب كريم).

يفعل المنتهك ذلك وهو يعلم يقينا  وإن غفل وكابر   أن الله مطلع عليه ، قال سبحانه:(وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً )(الإسراء17).

وقال أيضا:( وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )(البقرة74).

ويقول :(أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ  )(البقرة77 ).

ويقول:(أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ )(التوبة78).

ويقول:(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً )(النساء108).

ويقول:( وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ )(فصلت22و23).

فإذا ماخلوت بريبة في ظلمة               والنفس داعية إلى الطغيان

فاستحيي من نظر الإله وقل            لها إن الذي خلق الظلام يراني

ونستحضر في هذا المجال ذلك الحس الرقابي المرتفع والخشية المتأصلة لتلك الجارية المؤمنة ، والتي كانت تدرك عواقب ذنوب الخلوات ، لما اختلى بها رجل منطمس البصيرة غافل عن رقابة مولاه ، غلبته وطغت عليه شهوته قائلا ومراودا لها: لايرانا إلا الكواكب، فقالت له: وأين مكوكبها.

لذلك كانت درجة الإحسان أعلى من درجتي الإسلام والإيمان ، (قال: فأخبرني عن الإحسان. قال أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)( رواه مسلم. من حديث طويل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه).

ولذلك أيضا ندرك سبب علو مرتبة الذين يخشون ربهم بالغيب ، وسمو منزلتهم وسر تكريم الله لهم بمغفرته وعفوه ورضاه وجنته، وكثرة تأكيده على هذه الخصلة المباركة في كتابه الكريم،

قال تعالى:(إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِ يمٍ )(يس11).

وقال أيضا:( إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )(الملك12).

وقال أيضا:(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ )(ق  31  35).

إذا السر والإعلان في المؤمن استوى           فقد عزّ في الدارين واستوجب الثنا

فإن خالف الإعلان سراً فما له                 على سعيه فضل سوى الكدّ والعنا

3)  أذى الناس وظلمهم والتعدي على حقوقهم:

الأصل الثالث من أصول مواحق الطاعات ومحبطات الأعمال ، الإمعان في أذى الناس وظلمهم والاستطالة في إعراضهم والتعدي على حرماتهم وحقوقهم وأموالهم ، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي بصاحبه إلى درجة الإفلاس في الآخرة، وإن قدم على ربه بملء الأرض طاعة ومعروف وعمل صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال صلى الله عليه وسلم:(إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا ، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)(رواه مسلم).

قال النووي :( المفلس هو الهالك الهلاك التام ،و المعدوم الإعدام المُقْطِع ،فتُأخذ حسناته لغرمائه ،فإذا فرغت حسناته ،أُخذ من سيئاته فوضع عليه ثم أُلقيَّ في النار فتمت خسارته وهلاكه وإفلاسه)(11).

فالغبن كل الغبن أن يتعب العبد في تحصيل الطاعات وجني الحسنات ، ثم بعد ذلك يهديها في طبق من ذهب إلى الآخرين ، فتكون سبب نجاتهم وتثقيل ميزانهم ودخولهم الجنة، ويتخلصون من سيئاتهم وتطرح عليه ثم تطرحه في النار ، والله إنها لصفقة خاسرة وتجارة فاسدة بأن يبادل المرء الطيب من حسناته والصالح من أعماله، بالخبيث من سيئات غيره والطالح من أعمالهم، ثم يكون مصيرهم بها النعيم ومآله الشقاء .

فالعاقل من كان بخيلا بحسناته ، شحيحا بطاعاته ، ضنينا بأعماله الصالحة عاضا عليها بالنواجذ ، إلى أن يلقاها كماهي عند مولاه يوم القيامة، أما السخي بها المبعثر لها بسبب أذاه للآخرين والولوغ في أعراضهم وأكله لأموالهم بالباطل وإطلاق لسانه في الانتقاص منهم والتماس عيوبهم وغفلته عن عيوب نفسه ، فإنه أحرى أن يقدم على الله يوم الحساب مفلسا معدما .

فالاشتغال بمالايعني المرء ولا يفيده بل يضره ويقضي على مكتسباته من الحسنات هو علامة من علامات إعراض الله على العبد وخذلانه له، كما قال الحسن رحمه الله:(من علامة إعراض الله على العبد ، أن يجعل شغله فيما لايعنيه).

وقال معروف رحمه الله:(كلام العبد فيما لايعنيه خذلان من الله عز وجل).

فالمشتغل بعيوب الناس الغافل عن عيوبه دائر بين مرتبتي الإعراض والخذلان، وكلاهما مصيبة المصائب.

فلا تلتمس من مساوي الناس ماستروا              فيكشف الله سترا من مساويكا

وأذكر محاسن مافيهم إذا ذكروا                      ولاتعب أحدا منهم بما فيك

فالوقوع في الناس مهلكة لدين العبد ، مفسدة لطاعاته ، محرقة لحسناته، كما قال سفيان رحمه الله:(إياك والغيبة ، إياك والوقوع في الناس فيهلك دينك).

كما أنه ذنب عظيم يورد صاحبه سوء المصير وإن كان من أهل الطاعات ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(الربا اثنان وسبعون بابا أدناها مثل أن إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه)(السلسة الصحيحة).

وقد كتب رجل لابن عمر رضي الله عنهما يسأله عن العلم ، فكتب إليه ابن عمر:(إنك كتبت تسألني عن العلم ،فالعلم أكبر من أكتب به إليك ، ولكن إن استطعت أن تلقى الله كاف عن أعراض المسلمين ، خفيف الظهر من دمائهم ، خميص البطن من أموالهم ، لازما لجماعتهم فأفعل)(12).

فهذه أصول المواحق إن سلطت على الطاعة محقتها ، وإن أصابت العمل الصالح أحبطته وذهبت به أدراج الرياح ، وإن تسللت إلى الحسنات جعلتها هباء منثورا.

فليكن المؤمن على حذر وليحصن نفسه ضدها ، ويشدد الحراسة على أبواب قلبه وجوارحه ، وليكن يقظا لها أشد اليقظة، شديد المحاسبة لنفسه ، مستحضرا دوما رقابة الله سبحانه له ، دائم اللجوء والتضرع والانكسار إليه ، ليعينه على النجاة منها ، ويسدد خطاه ويحفظه في السر والعلن ، حتى لايسقط في بئر بوار.

clip_image002 clip_image002[1] clip_image002[2]

10  مختصر شعب الإيمان ص98

11  صحيح مسلم بشرح النووي

12 سير أعلام النبلاء3 ص 222

جميع الحقوق محفوظة © الماسة