الدكتور رشاد لاشين
ماجستير طب الأطفال / جامعة الزقازيق
وليسانس الشريعة الإسلامية،
تهل علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة كل عام فتهب علينا رياح التغيير العظيمة التي غيّرت وجه التاريخ عبر هذا الحدث العظيم الذي يجب أن تكون لنا معه وقفات مهمة لنُعيد قراءة واقعنا على أضواء دروسه العظيمة وليكون لنا محطة جديدة للانطلاق نحو تغيير أحوال أمتنا نحو الأفضل، وهذا هو سر توفيق الله تعالى لسيدنا عمر بن الخطاب بأن اختار الهجرة النبوية عنواناً للتاريخ الإسلامي وكان أمامه عدة مناسبات قوية يُمكن أن يستخدمها للتأريخ مثل غزوة بدر أو فتح مكة أو ميلاد أو بعثة الرسول صلى الله علية وسلم، ولكن كان توفيق الله تعالى لاختيار الهجرة حتى تكون محطة للتغيير الدائم لأمة الإسلام عبر السنين وصعوداً نحو المعالي بالهجرة والانتقال من الضعف إلى القوة ومن قهر الضلال وسيطرة الباطل إلى ريادة الإيمان والدور الريادي المنوط بها أصلاً.
مقومات التغيير الناجح من خلال الهجرة
1 ـ أن يكون هناك هدف عظيم يسعى الجميع من أجل تحقيقه: وهو إعلاء كلمة الله تعالى، وهذا ما وضحه لنا القران الكريم في التعقيب على الهجرة (((إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوبة الآية (40).
2 ـ ومن أهم دعائم التغيير الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة: وكسب الأنصار الجُدد وتهيئة الأرض الجديرة بحمل الرسالة، وتمثل هذا في بيعتي العقبة الأولى والثانية وبعث سيدنا مصعب بن عمير لنشر الدعوة في المدينة، فكان نشر الدعوة أهم وسائل النجاح وأعظم دعائم البناء الإسلامي.
3 ـ التضحية وتقديم الغالي والنفيس من أجل الفكرة وترك التثاقل إلى الأرض: وتمثل هذا في ترك الأموال والبيوت والديار في مكة المكرمة والذهاب إلى المدينة المنورة، فكان الإسلام هو أغلى شيء في حياة المسلمين وكانت النتيجة النصر والتمكين.
4 ـ الاعتصام بالله تعالى: فالاعتصام بالله هو الفرج والمخرج، فرسول الله صلى الله علية وسلم يخرج من بيته المحاصر بأربعين رجل لقتلة وهو يقرأ القرآن: (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ) يس الآية (9) ولا يخرج سالماً فقط بل ويضع التراب فوق كل الرؤوس وهذا شأن المعتصم بالله الآوى إلى ركنه الركين.
5 ـ تأمين الدعم الاقتصادي وتسهيل وصول الدعم اللوجستي:
فأبو بكر الصديق وفّر المال اللازم لشراء الراحلتين ودفع أجر الخبير الطوبوغرافي، وأسماء بنت أبي بكر كانت توصل الطعام، واختيارها كإمرأة تتحرك بسهولة لا يتعرض لها العرب بطبيعتهم سهَّل وصول الدعم اللوجستي لرسول الله صلى الله علية وسلم وصاحبه في رحلة الهجرة.
6 ـ التخطيط الجيد والعمل المنظم: وتمثل هذا في الآتي:
* تأمين حياة أفراد الأمة: فتأخير هجرة رسول الله صلى الله علية وسلم والأمر بخروج الأفراد سراً وفُرادى حتى لا يعلم أحد مقصودهم الجديد فينقضوا عليهم جميعاً فيه تأمين لخروجهم.
* خروج الرسول صلى الله عليه وسلم في وقت غير معهودٍ الخروج فيه: وقت الظهيرة واشتداد الحر في رمضاء مكة.
* استئجار خبير في الطوبوغرافيا (عبد الله بن أريقط): حتى لا يسير في طريق معهود فيسهل الإمساك بهم.
* استخدام الإخفاء والتمويه: وهو أحد وسائل الحرب الحديثة وتمثل في الآتي:
أ - مبيت سيدنا علي مكان الرسول حتى يظلوا ينتظرون خروجه وذلك في المرحلة الأولى حتى يتمكن من الخروج من مكة.
ب - عامر بن فهيرة يسير بقطيع من الغنم خلفهم لتغطية الآثار حتى لا يستطيع أحد أن يقتفي أثرهم.
ج - البقاء في الغار ثلاثة أيام في الوقت الذي تنتشر فيه قوى الشر في كل مكان للبحث عنهم.
د - تغيير اتجاه المسير فبدلاً من الانطلاق في اتجاه الشمال وهو التفكير المنطقي لمن يُريد الملاحقة يتجهون إلى الجنوب أولاً حيث لا يخطر ذلك ببال أحد.
7 ـ توزيع الأدوار:
أ - الكبار يوفرون الدعم المادي للمساندة والصحبة.
ب - الشباب والفتيان يقومون بالأعمال الفدائية والاستخباراتية.
ج - المرأة تقوم بالدعم اللوجستي.
د - باقي الأفراد يُهيئون الدولة والأرض الجديدة ويُرتبون احتفالية الاستقلال: (طلع البدر علينا من ثنيات الوداع).
8 ـ الشجاعة والقوة في الحق وتحدي الباطل وعدم الاستكانة إليه:
وتمثل ذلك في موقف سيدنا عمر بن الخطاب وبطولته العظيمة حين صعد على الجبل وأعلن هجرته حتى يُعلم الظالمين درساً في قوة الحق وأن المسلمين لم يُهاجروا خوفاً ولا جُبناً ولكن هاجروا من أجل مصلحة الدعوة ولبناء دولة الإسلام في أرض جديدة، وكانت هذه رسالة لا بد من توصيلها في موقف سيدنا عمر بن الخطاب.
9 ـ رعاية جميع الحقوق حتى حقوق الأعداء: وتمثل ذلك في مقام سيدنا عليّ في مكة لتوصيل الأمانات إلى أهلها وهم الكافرون أعداء الدعوة.
10 ـ الفدائية: يحتاج التغيير إلى شباب فدائي على استعداد لتقديم روحة فداء لدعوة الله وتمثل هذا في مبيت سيدنا علي في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف يُعرضه للقتل على يد أربعين رجلاً متربصين بالخارج.
11 ـ استشعار معية الله لإنقاذ الأمة في أحلك الأوقات: في لحظة من لحظات الإحساس بقرب سيطرة الأعداء وبطشهم بالأمة وقضائهم عليها واستئصالهم لشأفتها (لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا) وتأتى النجاة باستشعار معية الله (((لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا))).
12 ـ الاستطلاع الجيد والمخابرات النشطة الفاعلة: وتمثل هذا في تكليف عبد الله بن أبي بكر الغلام الصغير أن يعمل "ضابط مخابرات" لحساب رسول الله صلى الله علية وسلم، فهو صغير يجلس في وسط القوم فلا يعملون له حساب ويتكلمون بما يُريدون وينقل هو كل خططهم لرسول الله صلى الله علية وسلم ولسهولة حركته أيضاً كغلام لا يلتفت له أحد، فهو يجلس معهم طوال النهار وينطلق في الليل إلى رسول الله صلى الله علية وسلم "جهاز مخابرات" ذكي ونشط وفاعل ولا يخطر على بال أحد.
13 ـ نفوس قوية لا يُصيبها الحزن ولا يعتريها الإحباط: مهما كانت قوة الأعداء ومهما اختلّت موازين القوى الظاهرة فمعية الله أقوى من أي قوة وتأييد الله بجنود غير مرئية تُلقي في قلوب المؤمنين الهدوء والسكينة والثقة والطمأنينة بحتمية نصر الله (((فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا))).
14 ـ الأمل في نصر الله: (ارجع ولك سواري كسرى) كمن يقول الآن (ارجع عن محاربة المسلمين ولك البيت الأبيض) كلام يقوله رسول الله لسراقة وهو خارج مطارد تطلبه قوى الشر في كل مكان.
استكمال طريق الهجرة
طريق الهجرة دائم مستمر عبر نهج رسمه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قطعت أمتنا بعض الأشواط في طريق هجرتها ولكن الأمر مازال يحتاج إلى جهود كبيرة وأشواط كثيرة حتى نكمل طريق الهجرة، ويمتثل ذلك فيما يأتي: ـ
* الجهاد والنية: فلا يكتمل طريق الهجرة بدون النية الصالحة لبناء الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة بأكملها ونجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى ولا يكتمل طريق الهجرة بدون جهاد النفس والشيطان ومقاومة المادية وأصحاب الأهواء الذين يُضيعون الأمة وكذلك محاربة المحتلين أعداء الأمة الذين يستذلونها وبذلك نحقق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية).
* هجر ما نهى الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه". (رواه البخاري) ، وفي رواية (ابن حبان): "المهاجر من هجر السيئات، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".
فهيا بنا نهجر السيئات.. هيا نهجر كل ما نهى الله عنه في كل الميادين وعلى كل المستويات بدءً بالفرد وانتهاءً بالأمة، فتهجر الأمة معاصيها الكبيرة المتمثلة في الآتي على سبيل المثال:
ـ الاحتلال وتدنيس الأراضي ومقدسات المسلمين من قِبل الأعداء.
ـ التخلف عن ركب العلم والحضارة وكونها في وسط ما يُسمى بالعالم الثالث.
ـ التفرق والتشرذم وعدم اتحاد الكلمة.
* الأخذ بمقومات التغيير لإصلاح شأن الأمة: وخاصة الاهتمام بنشر دعوة الإسلام عبر وسائل الإعلام، فدعوتنا تحتاج إلى الابتكار وتكريس الجهود لتوصيل الفكرة بأسلوبٍ راقٍ ومتميزٍ عن طريق الفضائيات و(الإنترنت) وبشتى لغات العالم، فنقدم رسالة الرحمة والإنسانية لكل أمم الأرض.
ومع استمرار الجهود واحتفالنا بالهجرة كل عام عبر التغيير والارتقاء بشأن أمتنا وهجرها لأوضاعها غير السلمية في شؤون الدنيا والآخرة سيحدث التغيير المنشود ويأتي النصر المؤزر المبين بإذن الله تعالى.
* تحقيق العبادة هجرة إلى الله تعالى: هيا نأخذ بيد أمتنا إلى عبادة الله تعالى فنقيم الفرائض وننشر الفضائل ونُحقق العبادة بمعناها الشامل الذي يتناول مظاهر الحياة جميعاً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن معقل بن يسار: "العبادة في الهرج كهجرة إلي".