د.عدنان علي رضا النحوي
لا تغيب إِشراقَةُ الكلمةِ الطيِّبة ، ولا تذبل أَزاهير الحق ، ولا ينقطع دفُقُ الينابيع الطاهرة ، ويمضي الشَّـذَا يَمُدُّ الشَّذا ، والمَددُ يرفُد المَدَدَ ، والقوّة تُنمي القوة ، على خير ممتدّ ، وبركة واسعة ، تشمل الأرض بامتدادها ، والزمان بأَجياله . إِنَّ هذا كله ، وأكثر منه ، هو بعض عطاء الحق ، ونماء الخير ، وبركة الزاد ، على درب الإيمان ، وطريق الجهاد .
ولكنّ هذا كله لا يتيسَّر للقاعد اللاهي ، ولا للمتفيهق التائه ، ولا للجبان المغرور . إنّ الله سبحانه وتعالى أرحم بعباده المؤمنين من الأُمِّ بولدها ، ولكن الله سبحانه وتعالى سبقت كلمته ، وغلبت حكمته ، وجرى عدله ، وجعل في الحياة الدنيا سنناً لا تتبدل ولا تتحوّل . وجعل من هذه السنن أَنَّ بذل الجهد مطلوب من الإنسان مأمورٌ به ، مكلف به . وجعل من سننه كذلك أن الجهد المنهجي أقرب للغاية ، والسعيَ المنظَّم أدنـى إلى النجاح ، والصفّ المرصوص أقوى في الميدان ، والنية الصادقة تحمل ذلك كله ، وتدفعه إلى الغاية والنجاح والنصر ، والله يقدِّر ما يشاء ولا رادّ لقضائه .
فمهمة الإنسـان إذن بيّنة واضحة ، وواجبه مقرر جليّ ، وخصائصه مفصلة . فلا مجال للتمنِّي والظنون ، ولا فسحة للهوى والجهل ، على طريق الإيمان ودرب الجهاد .
إِن الإِنسان حين يرغب في وظيفة يريدها ، فإِنَّه يسعى لها السعي الحثيث ، لا يقعده حَرٌّ ولا قرٌّ ، ولا تعب ولا لهو . وإذا أَراد أَمراً أَعلى نهض إِليه نهوض الهمّة والنّشاط ، وترك الراحة والاسترخاء . وإذا عرضت له ثورة فزع إِليها بلهفة وشهوة ، وإلحاح وعناد . ويظلّ الإنسان يجري لاهثاً وراء هذه الرغبة أو تلك ، وهو يؤمن بأَنه لا ينالها قاعد ولا نائم ، وربما بذل الإنسان حياته وهو يجري لاهثاً وراء عـرض من الدنيا . وهو في سعيه هذا يبذل جهده ليخطط ويرسم ، وليضع نهجاً ويرسم درباً . إنّ الإنسان يشقى هذا الشقاء وهو يجري وراء دنيا زائلة ، وعَرَض كاذب . فكيف يتصوّر الإنسان إذن أن تكون طريق الجنّة ؟ وكيف يكون إذن درب الخلود .. ؟ وكيف يكون السعي إلى الآخرة ... ؟!
إن من يطلب الجنّة ، إذا كان حقّاً يريدها ، يجد أَنّ دربها واضح مشرق ، وسبيلها مستقيم منير ، ولكنه درب جهاد ومعاناة ، وابتلاء وتمحيص ، وبذل وعطاء ، وإيثار وصبر ، ونهج وقوة . إنه درب نية وإيمان ، وعلم ودراسة وتدبر ، ونهج وتخطيط ، وجهاد وجلاد .
إذا كان الإِنسان يخطط في سعيه لعرض زائل ، يُجهد نفسه ليل نهار وهو يقلبُ الأُمور ، ويراجع الحساب ، وينظر في الخطوة ، ليرى أَسلم نهج ، وأَصحّ سبيل يُقَرِّبُهْ إلى غايته ، فكيف يكون سعي الإنسان للجنّة إذن .. ؟! أَيُعقَل أن يظلَّ السَّعْي متفلّتاً من نهج ، مضطربـاً على فوضى وارتجال ، تائهاً في الحيرة والشَّكّ .. ؟! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله r :
( من خاف أَدلج ومن أَدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، أَلا إِن سلعة الله الجنة ) [رواه الترمذي وقال حسن غريب]([1])
إِنّ أوَّل النَّهج هو اليقين الثابت الذي لا يتيه في حيرة وشكّ ، وهو النيّة المشرقة بالعزيمة والوضوح ، والإرادة والقوة ، والجلاء والصدق ، حتى تظلَّ الجَنَّة هي الهدف الأول الحقيقي المشرق في حياة المؤمن . وبغير هذه النيّة الواضحة المشرقة ، وبغير هذه العزيمة الثابتة في إِرادتها الماضية في عزمها ، بغير هذا كله فإن العمل كله سيتيه ويضطرب ، ويبطل ويضيع . وبدون هذا كله لا يستقيم نهج ولا تتحدد سبيل .
( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) [ فصلت :30]
حين تصحّ النّية وتصدق العزيمة ، فإننا نحتاج إلى أن نعرف الخطوة الأولى على الدرب ، والوثبة الأُولى في الميدان . فإِنَّ هذه الخطوة الأُولى هي التي تحدد سائر الخطوات ، وإِنَّ هذه الوثبة الأُولى هي التي تمدُّ بالقوة ، وتوسع الرَّجاء ، وتقرّب إلى الغاية .
ولو كانت العقيدة غير الإسلام لاختلف الناس في الخطوة الأُولى ، ولتنوع الاجتهاد ، وتضارب الآراء ، ولكنه الإسلام جعل الخطوة الأُولى بعد الإيمان والنّية ، والعزيمة والقوة ، علماً محدَّداً واضحاً ، ومنهاجاً ربّانياً مُيَسَّراً ، لا حجّة لأَحد بالتولِّي أو الإِدبار عنه ، وبغير هذا العلم لا تستقيم سبيل ، ولا يشرق نهج ، ولا تعرف تكاليف وواجبات ، وتختلط الأمور بين خرافة وحقيقة ، أَو كذب وصدق ، أو ظنون ويقين ، أو وهم وحق . إِن الأُمور تختلط حتى لا تعود المعالم محدَّدة ، وحتى لا تتمايز الأَشياء بخصائصها . لقد اختلطت المعالم وبهتت الخصائص ، فكيف يتيسَّر التمايز ؟
إِن العلم هو الخطوة الأُولى على النهج . إِنه الخطوة الأُولى بعد النّية الصادقة والإيمان الصافي ، والعزيمة الصحيحة . والعلم هو كما تُحدِّده العقيدة ويرسمه الدين ، ويقرره الله رب العالمين ، ويبلغه للناس ورسوله الأَمين .
فأَساس العلم هو منهاج الله ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ . إنه المنهاج الربّاني كما أَنزله الله سبحانه وتعالى بلسانٍ عربيّ مبين ، يحمل الحق المطلق ، والدين الكامل ، والحجة والنور والبرهان .
فعن جندُب بن عبد الله ، قال :
( كنا مع النبي r ونحن فتيان حزاورة ، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن . ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيماناً ) [رواه ابن ماجة] ([2])
فالإيمان أولاً : (فتعلمنا الإيمان ... ) . وإن المؤمن ليتعلم قواعد الإِيمان .
وفي صحيح البخاري : ( بـاب العلم قبل القول والعمل ) لقولـه تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ ... ) . فبدأ بالعلم . وإن العلماء ورثة الأنبياء . وقال جلَّ شأنه : ( ... يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ... ) .
وقال النبي r :
( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما العلم بالتعلم ...)
[ رواه البخاري) ([3])
إِن النّية مقرونة بالإيمان ، والإِيمان متصل بالعلم ، والنّية والإيمان والعلم تمثل كلها في ترابطها الدرب السليم للتطبيق ، والصراط المستقيم للممارسة ، ويظلّ الدرب مُشْرقاً بالنّـور على قدر صدق النيّة ، وسلامة الإيمان ، وصحة العلم . ويكون الإشراق نهجاً واضحاً ، وخطة جليّة ، وخطا تتسابق ، وأنفساً تتزاحم ، على درب طويل إلى الجنّة .
إنّ واقع العالم الإسلاميّ اليوم يدعو بإِلحاح وقوة إِلى دراسة أسباب الضعف وعوامل الانهيار ، وإلى البحث عن حلول ووسائل ، وأساليب وبدائل ، وعسى أن يرفـع الله بها البلاء ، ويقطع الفتنة ، ويدفع إلى مسالك العزة والانتصار . إِننا أمام وضع مذهل من فتن وهوان ، وانحراف وضياع . ولكن النفس المؤمنة تتماسك أمام الأَعاصير ، وتتجلد أمام المحنة ، حتى تفكر بإيمان وعلم ورويّة .
لو أَحصينا عدد الذين يدخلون بيوت الله يصلون ... في العالم الإسلامي ، لوجدنـا أن العدد كبيرٌ جداً ، يكفي ليقدم للأُمة أَعظم الجيوش عدداً ، وأوسعها مـدداً . ومع ضخامة العـدد والمدد نجد الهزيمة والضياع . فهنالك إِذن مرضٌ ما ... ، أَو وهنٌ ما ... ، أو سوءٌ ما ... لا تكاد نلحظه بسهولة أمام الصلاة القائمة والشعائر المؤداة . فلو كانت الصلاة تؤدَّى بحقّ حتى تؤتي ثمارها ، ولو كانت الشعائر تقام على صفائها ، لدفعت هذه أَفواجاً من الجنود ، وأَمواجاً من شهداء الحق ، يرسمون طريق العزة لا الذلة والنصر لا الهزيمة .
ففي حديث رسول الله r عن ثوبان قال ، قال رسول الله r :
( يوشك الأمم أَن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أَنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن . فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت ) .
[ رواه الإمام أحمد وأبو داود ] ([4])
ولو رجعنا إلى تاريخنا لرأَينا أَن المرض ليس وليد ساعة ، ولا هو قضية سنوات . ولكنها قرون طويلة طرقت العالم الإِسلامي بالفواجع ، ومدّت فيه المجازر ، وسكبت الدِّماء . فالمرض إِذن أَقرب لأَن يعرف من شواهد التاريخ إِن طُوِىَ الحاضر ، أَو من فواجع الحاضر إن غاب التاريخ ، أو منهما معاً .
وأَول درس نتعلمه من تلك الأَحداث هو أَن يبدأَ المسلم بنفسه ، وأَن يرى المرض فيه كما هو بغيره . فلا يكثرنّ اللوم والعتاب ، وليأخذنَّ نفسه بالبناء والعلاج أولاً حتى يكون مثلاً وقدوة ، وحتى يكون لكلامه آذان تسمعه ، ولعله عيون تراه .
والدرس الثاني هو أَنه لا بد من أَن يكون لكل فرد في الأُمة مسؤولية وأَمانة ، وأَنه عليه أن ينهض لمسؤوليته وأَمانته بهمة وجد ، وعزم وحزم ، وقوة وعزيمة .
والدرس الثالث هو أَن هذه المسؤولية والأَمانة في حدودها العامّة ، لا يُحَدِّدُها بشر ، ولا يقرِّرُها إِنسان . ولكنها واجبات ومسؤوليات حدَّدها رب العالمين ، خالق الإنسان ورب الإنسان ، خالق السموات والأرض وما بينهما ، حدَّدها الله في منهاجه الربّانيّ . فمن هناك فقط تُعرف الأمانة وحدودها ، والواجبات وبنودها ، والمسؤولية ومداها . ولا يتعارض ذلك مع ضرورة وضع تفصيلات وإقرار جزئيات تقوم على أساس من منهاج الله والواقع الذي يعيشه المسلم . وتظلّ هذه التفصيلات تمثّل جزءاً من مهمة الإِنسان في ممارسته لمنهاج الله في واقعه البشريّ .
من هذه القضايا الثلاث ينطلق تصورنا للخطوة الأُولى على الدرب ، والوثبة الأُولى في الميدان . وإن البحث الذي نسوقه يقوم على نفس القاعدتين الثابتتين اللتين ندعو لهما : المنهاج الرباني ـ قرآناً وسنّة ولغة عربية ـ والواقع البشريّ .
أما بالنسبة لواقعنا اليوم ، فيمكن أَن ندرسه ونفهمه من خلال عمليّة إِحصائية ، تقدم لنا أَكبر عدد من النماذج البشريّة من واقع المجتمع الإسلامي الحاليّ . ومن دراسة هذه النماذج : وسعاً وطاقة ، إيماناً وعلماً ، بذلاً وجهداً ، وعياً والتزاماً ، تجربة وخبرة ، من دراسة هذه النماذج نستطيع أن نصل إلى ما هو أَصـحُّ من الظنّ ، وأقرب للأمانة ، وأوسع فائدة في رسم نهج ومعالجة موقف . ولكن الدراسة يجب أن تخضع لميزان الإسلام الدقيق ، للميزان الحق ، لا يعصف به الهوى . ومن مثل هذه الدراسة تجدنا نصل إلى نتائج واضحة بيّنة ، لم يكن يخفيها عن البصيرة إلا غشاوة من هوى ، حالت دون رد الأُمور إلى منهاج الله . ولا نريد هنا أَن نسوق أَرقاماً وأَمثلة وتفصيلات ، ولكننا نطرق أَهم النتائج التي تعنينا هنا .
أَن أَول ما نلمسه في واقع المسلمين من دراسة هذه الشرائح والنماذج هو ضعف الزاد من العلم الحق ، والله أَعلم بحال الإيمان . إِن ضعف الزّاد من العلم في مساحة واسعة جداً من الأمة ، واضطرابه لدى فئة أُخرى ، جعل الميزان لدى الرأي العام يضطرب ، والصورَ تختلط ، وسهّل على الأَعداء وأَهل النفاق أَن يندَسُّوا بين الصفوف ، وأَن يقتحموا الأَسوار ، وأَن يعلوا الثغور .
ولو قارنا هذه الصورة مع الصورة التي نراها في الأُمة في حياة الرسول r ، لرأينا عظيم الفرق ، وهول الخطر الذي يتهددنا .
من هذه النقطة ، من هذه الزاوية ، من هنا نرى أَن الخطوة الأُولى يجب أَن تبدأ . إِنها الخطوة الأُولى التي لا تعطل الخطوات التالية ، ولكنها تدفعها دفعاً واعياً قويّاً ، ونوجهها وجهة مطمئنة رضيّة .
وإننا نسأل الله سبحانه وتعالى أَن يتقبل هذا العمل نقيّاً طاهراً ، خالصاً لوجهه الكريم .
ونسأله تعالى أَن يَمُنّ علينا بلطفه فيجنّبنا الزلل وهو الوليّ الحفيظ .
فإِن أصبنا خيراً فذلك من فضله ورحمته ، وأما الزلل فمن الشيطان ومما كسبت أَيدينا . نلجأ إلى الله ، إلى عفوه ، إلى رحمته التي وسعت كل شيء .
(1) سنن الترمذي . أبواب صفة القيامة (38) . باب (18) . حديث رقم (2450) .
(1) سنن ابن ماجة . المقدمة . باب في الإيمان (9) . حديث رقم (49) .
(2) صحيح البخاري . كتاب العلم (3) . باب العلم قبل القول والعمل (10) ..
(1) سنن أبي داود : كتاب الملاحم (31) . باب في تداعي الأمم على الإسلام (5) حديث رقم (4297) ، أحمد : المسند : 5/278 ، الفتح الرباني : 24/32،31 .