الأمة... وما استفادَتْه من الحجّ

الحج عبادة عظيمة تشتمل على خلاصة مركَّزة لسائر مقاصد العبادات في الإسلام التي من أهمها أنها تُحدث نُقلة هائلة في فهم الإسلام من أن يكون مجرّد طقوس وصور إلى منهج للتعامل مع الله سبحانه وتعالى ومع الناس، ومنهج في فهم الحياة، ومنهج يحكم مسار البشرية في الأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع وفي سائر الشؤون.

ولو أردنا أن نقتصر على ذكر أهم مقاصد الحج ونعكس على مرآته واقع الأمة للمقارنة بين ما يجب أن نستفيده من العبادات وبين ما هو واقعنا لأمكننا أن نقدِّر حجم النُّقلة - سَعَةً وعمقاً وارتفاعاً - التي يمكن أن تَحْدث لو أن المسلمين يُفعِّلون دلالات الشعائر في ممارساتهم الحياتية:

أولاً إعلاء ذكر الله، فالحج يهدف أول ما يهدف إلى إعلاء ذكر الله ليكون سبحانه وتعالى هو المقصِد ورضاه هو أعز المطالب، وليس الدنيا ولا مناصبها ولا زعماؤها التافهون وطواغيتُها المتكبِّرون الذين يصرفون الناس عن الله ليستمتعوا بتقديسهم والدوران في فلك خدمتهم وطاعتهم.

ولقد ورد في الحديث النبوي المبارك البليغ:«إنما جُعل الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجمار: لإقامة ذكر الله» وهو حديث حسن، رواه بهذا اللفظ الإمام أبو داود في سننه (1883) وسكت عليه، وبنحوه رواه الإمام الترمذي بالسند نفسه عن السيدة الجليلة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن زوجها سيدنا رسول الله r، ثم قال: وهذا حديث حسن صحيح.

كما رواه الإمام ابن أبي شَيْبة في «المصنَّف» (15571)، والإمام أحمد في المسند (24351 و 25080)، والحافظ ابن الجارود في «المنتقى» - ح 457 - وابن خُزَيْمة في صحيحه (2738 و 2882 و 2970)، والحاكم في «المستدرك» 1: 459 ـ وصححه ووافقه الذهبيّ ـ ولفظه "... لإقامة ذكر الله لا لغيره".

وفي سند الحديث في كل طُرُقه عُبيد الله بن أبي زياد القدّاح وهو مختلف فيه: من العلماء من وثّقه ومنهم من ضعَّفه، وخلاصة الكلام فيه كما قال شيْخنا المحدِّث محمد عوّامة: أمرُه قريب .1هـ.

ولذلك حديثه صحيح بالجملة حسن اصطلاحاً والله أعلم.

وثبت موقوفاً من كلام السيدة عائشة رواه الحافظ ابن أبي شَيْبة في المصنَّف (15570)، و الحافظ عبد الرزاق في المصنَّف (8961) من طريقين عنها.

والحاصل أن الحديث ورد مرفوعاً وكذلك موقوفاً من كلام السيدة عائشة، رضي الله عنها.

وهو واضح الدلالة على أنّ مقصِد مناسك الحج (ذِكْر الله) وإقامتُه في القلوب وواقع الحياة، وفي هذا فائدة عظيمة في بيان (مرتبة ذكر الله) في الإسلام: فمن أجلِهِ شُرعت العبادات )وأقم الصلاةَ لذِكْري( وله سبحانه وتعالى ولإرضائِهِ ينبغي أن يَصرف الإنسانُ عُمُره.

والذكر هو ذكر اللسان بالثناء والحمد، وبالدلالة عليه سبحانه وتعالى وهداية الناس إليه والتعريف بشرعه، وذكر القلب بالتعظيم والتقديس والامتلاء حُبّاً له - تقدّس وتعالى- ورضاً عنه وتسليماً بقضائه وأمره ونهيه، وذكر الجوارح طاعةً له وعملاً بشرعه وإعلاءً لأوامره ونواهيه فوق كل أوامر ونواهي غيره.

ثانياً الاستجابة لأمره وشرعه، فهُتاف الحجاج (لبيك اللهم لبيك) المشفوع بتوحيد الله (لبيك لا شريك لك لبيك) ثم إسناد كل الحمد والنعم له سبحانه وتعالى (إن الحمد والنعمة لك والمُلك) وأن المُلك والسلطة والأمر والنهي له وحده لا لحزب ولا لسلطة ولا لزعيم إلا ما كان صادراً من أمره ونهيه سبحانه وتعالى. فأين تفعيل هذا الهتاف في حياة المسلمين بالمقارنة مع الواقع المُزْري من اتِّباع غير أمره في كثير من شؤون الحياة وتحكيم غيرِ شرعه من القوانين الوضعية الوضيعة التي وضعها رسول الله r هي وسائر أمور الجاهلية تحت قدَمَيْه الشريفتين في إعلانه السامي العظيم في خُطبة الوداع يوم عرفة من عام 10 هـ بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن أمر الجاهلية تحت قدميّ موضوع"؟!

فليس من (إقامة ذكر الله) أن يذكُرَه الحاجّ أو غير الحاج بلسانه ثم في حياته العملية هو أشدُّ ذِكراً للدنيا وأكثر مدحاً وتعظيماً وثناءً على من يُخالفون أمرَه ويُعلون في ممارستهم الحياتية أو السياسية أو الاجتماعية: التقاليد الجاهلية أو القوانين الوضعية!!

ثالثاً منابذة الشيطان وحزبه وأتباعه وما يدعو إليه من أفكار وأوضاع وقوانين، وكذلك مفاصلة من يدعو إلى طريقته من زعماء وأحزاب، وإلا فما معنى (رمي الجمرات) مع التكرار يوم العيد وأيام التشريق؟ وماذا يريد الإسلام أن يركِّز في نفوس المسلمين من هذا (الرمي الرمزي)؟ وهل يتحقق مقصده التربوي إذا أدّاه الحُجّاج صورة ثم إذا عادوا إلى بلادهم مارسوا في الحقيقة اتّباع الشيطان والانخراط في أحزابه وانبهروا بالدعوات التي تتعالى من أتباعه الذين حذّر منهم نبيُّنا r - كما في الصحيحين - من معالم الشرّ في عهود تمرُّ بالمسلمين حينما قال: «دعاةٌ على أبواب جهنم من أجابهم إليها قَذَفوه فيها»، فسئل r أن يلخِّص حقيقة صفتهم، فقال - كما في رواية صحيح مسلم- : «جُثمانُهم جثمانُ إنس وقلوبُهم قلوب الشياطين»؟!!

فانتبهوا أيها الحجّاج وافْقَهُوا أيها المسلمون حقيقةً دينكم ومقاصدَ عباداتكم وكونوا منسجمين مع أنفسكم: حالة أدائكم للعبادات، وفي سِيرتِكُم الحياتية وتوجُّهاتكم الفكرية والسلوكية والسياسية والاجتماعية، واطلبوا الهداية والثبات عليها من الله فإن ذلك أعظمُ المطالب وأنفسُ الرغائب )ربَّنا لا تُزغْ قلوبَنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب(.

ألا فلنراجع فهمنا لديننا واستفادتنا من العبادات، والله الموفق والهادي.

جميع الحقوق محفوظة © الماسة