يحظى الفقه بمكانة متميزة في الثقافة الإسلامية بوصفه علما يستند إلى الوحي، وينظم حياة الناس في المجتمع. ورغم أنّه يعدّ في سلـّم تصنيف العلوم علما فرعيا أدنى رتبة من العلوم الكلية أو الأصولية، فقد كان أكثر المعارف تعبيرا عن الذهنية الإسلامية لعدّة أسباب منها سعة انتشاره، وكثرة المشتغلين به، والتصاقه القريب بواقع الناس، فهو الذي ينظم العبادات ويحدّد تفاصيلها، وهو المرجع في الفتوى، كما أنّه عمدة القضاة في الفصل بين الخصومات، وإذا أمكن أن يخلو بلد من متكلم أو مفسّر أو محدث فقلّ أن يخلو من فقيه أو عارف بالفقه، وقلّ أن تجد قارئا ليست له صلة قريبة أو بعيدة بالمعرفة الفقهية، بل لا يكاد يوجد مسلم ولو كان أمّيا لم يخطر بباله أن يسأل عن حكم الله في تصرّف معيّن. فالفقه على حدّ تعبير الجابري كان أعدل الأشياء قسمة بين الناس في المجتمع العربي الإسلامي، ولهذا أجاز لنفسه أن يصف الحضارة الإسلامية بأنّها "حضارة فقه"[1].
صحيح أنّ الحضارة الإسلامية أوسع من أن تُحصر في حدود الإنتاج الفقهي، لأنّها تميّزت بخصوبتها وثرائها الثقافي المتنوّع، ولكنّها حضارة تأسّست على الوحي، وافتتحها النص الديني بوصفه محرّكها الأوّل ومصدرها المركزي، وقد كانت العلوم الأولى التي نشأت في محيطها علوما نقلية يتصدّرها الفقه بجمعه بين البعدين النقلي والاجتهادي. ولهذا صار مبدأ "الحلال والحرام" معيارا حاسما في قياس تصرّفات الناس، بل وفي قبول أي علم دخيل على العلوم النقلية، وعلى البيئة الإسلامية عامة. ومازال الناس إلى اليوم يتساءلون عن أحكام كثير من المستجدّات التي تفرزها الحضارة الحديثة، مثل التبرّع بالأعضاء، وأطفال الأنابيب، والاستنساخ، وغيرها، ممّا يدلّ على تغلغل "العقل الفقهي" في الحضارة الإسلامية وعلى مركزية مقياس "الحلال والحرام" وفي ذهنية الناس.
وقد اكتسب الفقه أهميته من جهتين: جهة استناده إلى النص المقدّس بوصفه مثالا للقيم السلوكية، وجهة تعلقه بالواقع العملي لأنّ الناس يحتاجون إليه في عباداتهم ومعاملاتهم. غير أنّ التطابق بين المثال والواقع لم يكن على وتيرة واحدة، وهو ما جعل العلاقة بينهما إشكالية، إذ تارة يطغى المثال على الواقع فيتجاوزه ويرهقه من أمره عسرا، وأخرى يطغى الواقع بضغوطه فينفصم عن التنظيرات الفقهية. وهو ما يحدث توترات تقسّم الفقهاء غالبا إلى ثلاثة أصناف: صنف يتمسّك بالمُثل الموروثة، ويرفض أن يهادن المتغيرات، ويرفع شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصنف يساير الظروف، ويسعى إلى تبرير كثير من المستجدات موظفا مقولة تغيّر الأحكام بتغيّر الأعراف والعادات. أمّا الصنف الثالث فيعمل على التوسط بين الطرفين بحثا عن تركيبة توفيقية تحافظ على ثوابت النص ومقاصده المركزية، وتترك مجالا للمتغيرات بشرط عدم الخروج عن الثوابت الراسخة.
وممّا ينبغي تأكيده في هذا السياق هو أنّ هذه الإشكالية ليست مجرّد مسألة تراثية تجاوزها التاريخ، لسببين على الأقل:
· أوّلهما: أنّ التراث في حدّ ذاته ليس هو ما سكن ذاكرة التاريخ وعفا عليه الزمن، بل هو ما استمرّ من الماضي في الحاضر بوصفه مخزونا ثقافيا مؤثـّرا في عقلية الأحفاد الوارثين بطرق متباينة.
· وثانيهما: أنّ التراث الفقهي يتفرّد بمجموعة من الخصوصيات التي تميّزه عن كثير من أنماط التراث وتجعله موضوعا من مواضيع الحاضر وإشكالية مفعمة بالمعاصرة، ومرتبطة بقضايا اليوم والغد. وذلك لأنّه يستند في قضاياه المركزية إلى النص الديني، أي إلى الوحي الذي يخرجه كثير من الباحثين من سياق التراث على معنى أنّ التراث في اصطلاحهم مختص بما ينتجه الإنسان. أمّا الوحي فهو نص مقدّس يظلّ باستمرار محافظا على قيمته التعبديّة لدى المؤمنين. وبما أنّ التديّن مازال حاضرا في الواقع المعاصر ولو بطرق متفاوتة فإنّ الوعي الديني بقي منشدّا إلى الوحي أوّلا، ثم إلى الفقه بوصفه منظومة علمية تستكشف الوحي وتبيّن أحكام الشرع في سلوك الإنسان. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنّ الفقه في الوعي الديني ليس مجرّد تراث يُقرأ بوصفه تاريخا، أو تُعاد قراءته قراءة نقدية كما يفعل كثير من الباحثين، بل هو إلى جانب تاريخيته التي لا تُنكَر يُعدّ مرجعا للسلوك ومصدرا للفتوى. فمستفتي اليوم هو كمستفتي الأمس لا يسأل لينقد أو يعيد القراءة إنّما يسأل من منطلق ديني ليعمل أو يترك، ويطرح إشكاله بحثا عن حكم الله في المسألة، واستنطاقا للمثال قصد تطبيقه ولو بصفة شخصية على واقعه المخصوص.
وليست المسألة مخصوصة بالفتاوى الفردية التي صارت اليوم تحظى بمكانة ملحوظة في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، بل إنّ كثيرا من المستجدّات العلمية والاجتماعية صار المنظرون والمختصون في المجالات العلمية والقانونية يسعون إلى معرفة آراء الفقهاء فيها ولو على سبيل الاستئناس، خاصة عندما يتعلق الأمر بإقناع الرأي العام بموضوع حرج يحتاج إلى كثير من التوعية. ومن يدخل إلى عالم الأنترنات يجد الفتاوى الفقهية قد احتلت مواقع متعدّدة يمكن أن يلتقطها أي باحث مختص أو غير مختص.
كل هذا وغيره يؤكّد أنّ الإشكاليات الفقهية مازالت مطروحة على العقل المسلم في واقعه الحديث، بل لعلها صارت أكثر تعقّدا وأدعى إلى البحث والاجتهاد. والسؤال الملح باستمرار في هذا السياق هو: هل تتضمّن المنظومة الفقهية آليات منهجية تمكّنها من تحقيق ضرب من التوازن بين المثال المقدّس والواقع المتغيّر ؟
ولا ريب أنّ الإشكالية متشعّبة، وذات مداخل وتفاصيل متنوّعة، وإنّما سنكتفي في هذا المجال بإثارة طرف من الموضوع من خلال مدخلين متكاملين ومتداخلين، أوّلهما جدل المثال والواقع في التفكير الفقهي، وثانيهما التفكير الفقهي بين المنهج الافتراضي والمنهج الواقعي.
-II جدل المثال والواقع في التفكير الفقهي:
قد يُنقد التفكير الفقهي بأنّه تفكير مثالي يؤسّس منظومة أخلاقية تحلـّق فوق الواقع، أو بأنّه منهج يبالغ في الافتراضات النظرية، ويتكلم لغة معقّدة لا يفهمها جمهور الناس أو أوساط المثقفين والمتعلمين. لكنّ هذا النقد إن صدق في فترات معيّنة وعلى بعض الفقهاء النظريين، فهو لا يصدق على جوهر التفكير الفقهي بما هو نظر تشريعي يستهدف الواقع مباشرة.
فعندما يقول عمر بن الخطاب في رسالته المشهورة إلى قاضيه أبي موسى الأشعري « الفهم الفهم فيما أدلي إليك »[2] فهو يقصد بذلك فهم الحيثيات العملية المعروضة قبل إصدار الحكم في خصوصها. ولهذا لا يمكن ممارسة الفقه بعيدا عن الواقع، ولا يمكن للفقه أن يكون واقعيا، فذلك هو هدفه المركزي، وذلك هو موضوعه وحقله المعرفي الذي يحدّده ميدان تخصّصه.
وهذا المنحى ظاهر بداهة من خلال تعريفات الفقهاء وعلماء الأصول للفقه، فقد عرّفه الرازي مثلا بأنّه « العلم بالأحكام الشرعية العملية، المستدل على أعيانها»[3] وللعلماء تعريفات متقاربة لا تختلف إلاّ في التدقيقات الاصطلاحية، ولكنّها تلتقي عند بؤرة مركزية وقضية نواة هي جوهر الفقه، لأنّ الجميع يؤكّدون أنّه يهتم بقضايا العمل، أي بإشكاليات الحياة في أبعادها المتنوعة. فالفقه إنّما هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، أي بالقضايا الشرعية التي تولـّدها الممارسة اليومية للعبادات وللعلاقات الاجتماعية.
غير أنّ واقعية النظر الفقهي ليست واقعية سالبة تنغمس في المعيش لتقبله كما هو دون تنظيم أو تأطير، بل هي واقعية تستند إلى مرجعية تنظيرية تعالج الحادث، وتطرح وجهة نظرها في المستجدّ. وهنا تظهر مثالية النظر الفقهي، وتبرز جدليته بين المثال والواقع، إذ الفقيه لا ينطلق من فراغ، ولا يحتكم إلى العقل المجرّد، بل ينطلق من "خطاب الله" لأنّ الحكم الشرعي الذي هو موضوع بحثه إنّما هو في التعريفات الاصطلاحية المتداولة « خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين »[4] وخطاب الله هو المثال الذي يجتهد الفقيه في فهمه إن كان نصا أو في الاستدلال بالقرائن والأدلة الدالة عليه إن لم يكن كذلك.
وبناء على ذلك يمكن القول بأنّ الفقه هو تفكير في واقع انطلاقا من مثال. فالمثال هو النصوص الشرعية وغيرها من الأدلة، والواقع هو الأحداث العملية التي تعجّ بها الحياة. فالفقيه ليس شارعا للحكم أو للمثال وإنّما هو كاشف عنه، إذ الشارع هو الله تعالى، كما أنّه – أي الفقيه – ليس ناسخا للواقع بل هو مراع إيّاه أو محقق له بوصفه مناطا للحكم. وبهذا يمكن اعتباره وسيطا معرفيا بين المثال والواقع. وهذا يتطلب منه بداهة أن يكون على وعي تام بطرفي المعادلة، أي متمكّنا من آليات استكشاف الأحكام من الأدلة، وعارفا بملابسات الواقع المتغيّر، فإذا اختلّ وعيه بأحد الطرفين انعدمت فيه صفة الفقه بمعناها الأصيل.
والفقيه بعقله الناظر إنّما يقف بين بعدين كلاهما منفتح مع فروق ظاهرة، فالنص الديني إلى جانب مثله الراسخة ومقاصده الثابتة، وكلماته المتناهية يسمح بقدر كبير من المرونة في إطار كلـّياته، بل إنّ دلالته منفتحة ولا متناهية، ففهم كلام الله تعالى كما أكّد الزركشي « لا غاية له كما لا نهاية للمتكلم»[5]. ورُوي عن أبي الدرداء قوله « لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها»[6]. أمّا الواقع فهو بنية متحركة منفتحة على تغيرات لا متناهية. وهذا يتطلب من الفقيه أن يتسلح بعقل حركي مرن يستطيع أن يفهم من القرآن ما فهم وما لم يفهم، أي أن يجعل له وجوها على حدّ قول أبي الدرداء، أو أن يثوّره حسب ما روي عن عبد الله بن مسعود « من أراد علم الأوّلين والآخرين فليثوّر القرآن»[7] وبذلك يستطيع أن يتابع حركة الواقع المتغير، فالعقل الساكن لا يقدر على استنطاق النص وعلى محايثة الحياة المتدفقة صوب تغيرات متسارعة لا تكاد تعرف لها نهاية.
ولقد أتت على المسلمين أحيان من الزمن قديما وحديثا تضخّم فيها التنظير الفقهي، واتسعت فيها الفجوة بين المثال والواقع، إمّا لكثرة الافتراضات والجدليات النظرية لدى الفقهاء، أو لابتعاد الواقع تدريجيا عن تمثـّل المثل والأحكام. وليس من غرضنا متابعة العلاقة الجدلية بين الطرفين، فذلك أمر يطول، وهي معقدة ولم تكن على وتيرة واحدة، وإنّما تكتفي بتأكيد أمرين.
· أوّلهما: أنّ الزمن التأسيسي وهو الزمن المثالي في وعي المسلمين إنّما اكتسب مثاليته القصوى من واقعيته، حتى أنّه يصعب أو يقلّ فيه التفريق بين المثال والامتثال، فقد كان الواقع والمثال فيه وجهان لحقيقة واحدة كل منهما يحيل إلى الآخر دون صدام أو تدافع رغم حدّة المشاكل الواقعية التي واجهها الرسول صلى الله عليه وسلـّم في تحقيقه لبيّنات الرسالة، وقد كان ذلك الزمن في الحقيقة زمن تشريع أكثر منه زمن فقه بالمعنى الاصطلاحي الذي عرف من بعد، لأنّ النصوص كانت تشرّع للواقع مباشرة دون وساطة فقهاء مختصين. فقد كان الناس في وضعية ترقّب مستمر لنزول الوحي، وكان الرسول موجودا يبيّن للناس ما غمض عليهم من التشريع. أمّا اجتهادات الصحابة آنذاك فقد كانت نادرة بحكم رجوعهم المباشر إلى المرجع الذي يعايشونه.
· أمّا الأمر الثاني الذي نودّ تأكيده فهو أنّ الفقه رغم جنوحه إلى التنظير، وإلى الافتراضات التي يستدعيها المنطق التوليدي، ورغم ظهور فجوات بين المثال والواقع يظلّ دائما في بنيته العميقة محافظا على طاقة واقعية تجعل النظر الفقهي بحثا في الممكن واجتهادا مرتبطا بالحياة، وينضح عملا. وذلك لأنّ مصادره المركزية وقواعده الكبرى تُعدّ آليات تستهدف العمل أساسا. فالقرآن بوصفه المصدر الأعلى للمرجعية الفقهية هو نص واقعي بحكم ارتباط تشريعاته بملابسات النزول، وبقضايا عينية عايشها الناس، وهو يصرّح بأنّه لا تكليف بما يفوق الطاقة، فهو لم يكن على شاكلة المدن الفاضلة التي حلم بها الفلاسفة في يقظتهم التخيلية، ولكنّه كتاب الواقع يشرّع لمدينة فاضلة في حدود الممكن، ويعامل الإنسان على أنّه بشر من طين ذا أبعاد روحية تؤهّله لإثبات جدارته بالتكليف والاستخلاف، ولكنّه مع ذلك يخطئ ويصيب، ويقدر على أشياء ويعجز عن أخرى.
وكذلك كانت السنّة تعكس نموذجا للإنسان المثالي الذي يعيش الواقع في حدود إمكانيات البشر، ويعلـّم الناس الأحكام بالعمل لا بالتنظير المجرّد، وكان إذا خُيِّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وكان يحثّ الناس على الالتزام بما يطيقون، لأنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، كما كان صلى الله عليه وسلـّم يكره التكلـّف، واضحا في بلاغه، مختصرا في بيانه، عمليا في تعليمه وتوجيهه، يراعي ذهنية السائل أعرابيا كان أم غيره، ويقدّر ظروف الناس، ويجيب على قدر السؤال وإن أضاف أمرا فللإفادة العلمية، ويطالب المسلمين بأن يصلـّوا كما يرونه يصلـّي، وبأن يأخذوا عنه المناسك كما يرونه يتنسّك، لا يجرّد المسائل من وقائعها، ولا يخاطب العقول بما تعجز عن فهمه، ولا مجتمعَ الناس بما يعسر الالتزام به. وكان أيضا يكره السؤال عمّا لم يقع أو سكت عنه النص حتى لا يُرهق المكلفون بمحرّمات أو واجبات إضافية تضيّق أفق الإباحة الذي تركوا عليه، ولذلك رُوي عنه صلى الله عليه وسلـّم أنّه قال « إنّ أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم، فحرّم لأجل مسألته»[8] وممّا روي عنه في ذلك أيضا قوله « ذروني وما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»[9].
ثمّ لمّا انتقل الفقه من مراحله العفوية والواقعية الأولى إلى مراحل التقعيد والتأصيل والتنظير احتفظت تنظيراته - رغم سماتها التجريدية التي رسّخها علم أصول الفقه – بدلالات واقعية ظاهرة، فالتنظيرات المتعلقة بالرخص الشرعية مثلا، إنّما تعكس أسلوبا واقعيا في النظر يعامل الإنسان وفق ظروفه المخصوصة، ويراعي الحالات الاستثنائية التي يعجز فيها عن التمسك الجازم بالحكم، فإذا كانت "العزيمة" هي "المثال" بوصفها الحكم الابتدائي العام لكلّ المكلفين فإنّ "الرخصة" تعدّ "الواقع" المستثنى بحسب العوائق الطارئة التي قد تحل بالجسد أو بالعقل أو بالظرف الاجتماعي للإنسان. وكلام الفقهاء على "تحقيق المناط" هو ضرب من البحث في الحيثيات الواقعية التي تصلح لتطبيق الحكم وتجسيم المثال. ومباحث "العرف" في أصول الفقه وفي كتب الفقهاء يمكن أن ينظر إليها على أنّها مباحث اجتماعية تقدّر نوعية العلاقات السائدة بين الناس، وتجعلها مدخلا هاما للاجتهاد الفقهي المرتبط بطبيعة العصر وملابسات المكان وتقاليد المجتمع. ولذلك أكّد الفقهاء أنّ "المعروف عرفا كالمشروط شرطا" وأنّه لا ينكر تغيّر الأحكام بتغيّر الأعراف أو الأحوال. ورغم أنّ كتب الفقه العام وخاصة كتب الخلاف كانت تميل إلى التنظير فإنّ كتب الفتاوى والنوازل كانت تنضح واقعية لأنّ المفتي مطالب دائما بأن يجيب عن سؤال عملي متعلق بواقعة عينية محدّدة دون جنوح إلى التنظير والافتراض، لذلك اعتبرت هذه الكتب مجالا خصبا لدراسة الواقع الاجتماعي من منظور فقهي.
-III التفكير الفقهي بين المنهج الافتراضي والمنهج الواقعي:
تقدّمت الإشارة إلى أنّ المنهج التشريعي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلـّم كان واقعيا بعيدا عن الافتراضات النظرية، ثمّ إنّ الصحابة بعد ذلك واصلوا الاجتهاد والكلام في الأحكام على نفس النسق مواكبين المستجدات الحادثة في عصرهم على نحو واقعي، وكانوا كما كان أغلب التابعين يكرهون التفكير الفرضي، وتكلـّف الكلام على ما لم يقع، والروايات في ذلك عنهم كثيرة منها ما روي أنّ عمّار بن ياسر سئل عن مسألة فقال « أكان هذا بعد ؟ قالوا: لا. قال: دعونا حتى تكون، فإذا كانت تجشّمناها لكم» ومن ذلك أيضا ما رُوي عن عمر بن الخطاب أنّه قال على المنبر « أحرج بالله على رجل سأل عمّا لم يكن فإنّ الله قد بيّن ما هو كائن»[10]. ثم واصل الفقهاء الأوائل وخاصة أهل الحديث منهم الالتزام بنفس المنهج، وهو ما كان الإمام مالك حريصا عليه إذ عُرف عنه كرهه لتسلسل الأسئلة المتولّدة عن بعضها. غير أنّ الواقع كان يتعقـّد باستمرار وأسئلة الناس ازدادت تكاثرا، فلم يتمكّن التفكير الفقهي من الثبات طويلا أمام التيار المتدافع للتساؤلات الافتراضية، ولم يعد الفقهاء جميعا يسكتون إذا سُئلوا عمّا لم يكن، بل صار فقهاء الرأي من العراقيين وأبو حنيفة وأصحابه على الخصوص يلاحقون الافتراضات الممكنة ولا يكتفون بالاجتهاد فيما وقع فقط.
وبذلك عرف التفكير الفقهي منهجين أحدهما أرأيتيّ يستعدّ للبلاء قبل وقوعه كما يقول أصحابه، وثانيهما واقعي لا يصدر الحكم إلاّ عند وقوع الحالة المشكلة، لأنّ أصحابه يرون أنّ معرفة حيثيات الواقعة وملابساتها أدعى إلى استنباط أصوب الأحكام في خصوصها. وللمقارنة بين هذين الاتجاهين يمكن القول بأنّ المنهج الفرضي استباق للواقع، وأنّ المنهج المقابل انتظار له. فالأوّل مستقبليّ يستشرف ما يمكن أن يقع قبل وقوعه، والثاني حينيّ أو آنيّ لا يحكم إلاّ على ما وقع إثر وقوعه. كما أنّ الأوّل "مثاليّ" يجهّز نماذج نظرية ليُسقطها على المتوقع، والثاني "عمليّ" يرفض الحكم على غائب، ولا يريد تحمّل مسؤولية المستقبل قبل ظهوره في الزمان.
والسؤال المهمّ الذي يمكن طرحه في هذا السياق: هل على فقيه اليوم أن يرفض المنهج الافتراضي رفضا حاسما ويتمسك بعقلية الانتظار والترقب رافضا الأسئلة المتعلقة بالممكن مصرّا على الواقعية المباشرة حتى تفاجئه الأحداث والمستجدّات، وتتراكم حوله، وتملك عليه أقطار الواقع بكل ما فيه من تداعيات وإشكاليات لا تحتمل الانتظار ؟
إنّ جوهر المسألة في تقديري لا يتمثل في العمل على ترجيح المنهج الافتراضي بطريقته التوليدية القديمة، أو المنهج الذي يكتفي بترقب وقوع الفعل، بل لا بدّ من السعي إلى توظيف المنهجين بطريقة حديثة تعمل على الاستشراف بقدر ما تجتهد في مساوقة الواقع الفعلي، وذلك لأنّ مناهج البحث الحديث في مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها قد تطوّرت على المستويين العالمي والوطني، وصارت تجتهد في تقليص الفوارق بين التوقـّع والوقوع، أي بين التخطيط المستقبليّ والإنجاز الفعليّ. فالدراسات التوقعيّة صارت تمثـّل جوهر البحث في مختلف المجالات، غير أنّ هذا التوقـّع لا يقوم اليوم على تسلسل الافتراضات الذهنية التي تتوالد ذاتيا بمعزل عن الواقع، بل هو مبني على فهم الواقع ومعرفة الإمكانيات المتوفرة، وعلى دراسات ميدانية وإحصائية دقيقة تمكّن الدارسين والمخططين من الوقوف على التطورات الممكنة مستقبلا، ومن اقتراح ما يمكن أو يجب القيام به على المدى القريب أو البعيد، مع مراعاة أقصى ما يمكن من العوائق التي قد تعدّل التوقعات، إذ أنّه لا يمكن استبعاد اللاّمتوقـّع بصفة نهائية من عالم الإنسان المتغيّر. فالدول المتقدمة اليوم تبني مقوّمات تنميتها وتسيّر شؤون حياتها بناء على مخططات، وتهتمّ بالدراسات الاستراتيجية وبالبحوث المستقبلية والاستشرافية لتقليص ردود الفعل المتسرّعة إزاء المتغيرات، وتضييق عوامل الصدف والارتجال ما أمكن في عالم اشتدّ فيه التنافس وتسارعت حركيّته وتحوّلاته.
فهل بعد هذا وغيره يمكن للعقل الفقهي أن يقنع بانتظار وقوع الأحداث وحصول المتغيرات والمستجدات دون أن يؤسّس نمطا من التفكير الاستراتيجي والبحث الاستباقي، ليكون حاضرا في الواقع المتحوّل بسرعة غير معهودة. فهل من الضروري مثلا أن يكتفي الفقهاء بما قد تسفر عنه البحوث والتجارب البيولوجية ليصدروا عندها أحكاما حينيّة قد يحالف بعضها الصواب وقد لا يحالفه ؟ أم إنّه لا بدّ من متابعة ما يجري، واستشراف لما يمكن أن تسفر عنه هذه التجارب لوضع استراتيجية متكاملة مبنيّة على مقاصد الشرع وأسسه الجوهرية، تمكّن من المشاركة الفاعلة في مختلف الحوارات المتعلـّقة بالنتائج الحاصلة أو المحتملة في هذا الميدان، وغيره من الميادين ؟ وإذا كانت مثل هذه القضايا يشارك فيها الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع ورجال القانون، وسائر المثقفين والمفكرين، فما على الفقهاء إلاّ أن يُسهموا من مواقعهم في كلّ الحوارات التي تشغل مثقفي العصر والفاعلين فيه، وتلك مسؤولية كبرى ما نظنّ إلاّ أنّها مشترَكة.
[1] - تكوين العقل العربي: ص 96، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب – ط 3 – 1987.
[2] - أنظر نص الرسالة في إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن قيّم الجوزية، ج 1 ، ص 85-86، بيروت – ط 2 – 1977.
[3] - المحصول في علم الأصول: 1/10 – دار الكتب العلمية – بيروت – لبنان ط 1 – 1988.
[4] - البيضاوي: مناهج الوصول في معرفة علم الأصول، ص 20 (بهامشه: الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج لعبد الله الغماري، مع تعليق وضبط للتخريجات قام به سمير طه المجدوب – عالم الكتب – بيروت لبنان. ط 1 – 1985).
[5] - البرهان في علوم القرآن: 2/155 (دار الجيل – بيروت – لبنان – 1988).
[6] - م.ن: 2/154.
[7] - م.ن: ص.ن.
[8] البخاري: كتاب "الاعتصام" باب "ما يكره من كثرة السؤال" 4/258 (دار المعرفة – بيروت – لبنان – د.ت)
[9] - مسلم: كتاب "الحج" باب "فرض الحجّ مرّة في العمر" 4/102 (دار المعرفة – بيروت – لبنان – د.ت).
[10] - الخبران: أخرجهما الدارمي في سننه: باب "كراهية الفتيا" ص 50 (مطبعة الاعتدال دمشق – سوريا – 1349 هـ / 1930م).
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.