مقصد المقاصد العاشورية

يحظى كتاب "مقاصد الشريعة الإسلامية" للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور بمكانة متميّزة بين مصنّفاته القيّمة، لأنّه خصّصه لمشغل مركزيّ ذي طابع كلي هو أهداف التشريع وغاياته الكبرى. بل هو معدود ضمن أهمّ البحوث التجديدية التي أسهم بها رجال التنوير في تحريك سواكن النظر الاجتهادي قصد تفكيك سياج التقليد الذي طالت عهود وصايته على العقل.

وليست الكتابة في المقاصد أمرا حادثا في الثقافة الإسلامية ابتكره الشيخ ابن عاشور على غير مثال سابق، وإنّما يُعتبر جهده امتدادا لإرهاصات ظهرت على أيدي أعلام معروفين مثل إمام الحرمين الجويني (ت: 478هـ/1085م) وأبي حامد الغزالي (ت: 505هـ/1111م) وسيف الدين الآمدي (ت: 631هـ/1233م) غير أنّ هؤلاء لامسوا الموضوع دون أن يُفردوه بالتصنيف، فبقي في كفالة علم أصول الفقه موصولا بمباحث القياس ضمن مسالك التعليل، لذلك تأخّر نضجه واستقلاله وبقي أسير المنظومة الأصولية في انتظار تحريره.

ثم ظهرت في القرن السابع من الهجرة محاولات جادّة تقدّمت بالنظر في المقاصد خطوات هامة، ومن أبرز أعلام هذه المرحلة العزّ بن عبد السلام (ت: 660هـ/1261م) صاحب كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وتلميذه القرافي (ت: 684هـ/1285م) صاحب كتاب "الفروق". لكنّ هذه المرحلة لم تنطلق من علم أصول الفقه، بل كانت نتيجة جهود فقهية اختار أصحابها منهج التقعيد مسلكا في الكلام على مقاصد الأحكام ومصالحها. ويمكن وصف هذه القواعد المصلحية بأنّها مسلك وسيط بين علمي الفقه والأصول. لذلك جرى عرف المغاربة على تسميتها "الأصول القريبة"[1].

وهكذا بقي الكلام على المقاصد يتجاذبه علمان متكاملان هما الفقه والأصول إلى أن استقرّ في علم يتوسّطهما دون أن يخلص لواحد منهما هو علم "القواعد الفقهية"، لكنّه لم يظفر بعد بمن يمنحه استقلاله في موقع خاص يتأسّس فيه علما قائم الذات، وظلّ موزّعا بين هذه العلوم الثلاثة، لأنّ عدم نضجه جعله في حاجة إلى رحم مكين يستقرّ فيه إلى حين.

بل إنّ النظر في المقاصد وأسرار التشريع وجَدَلَهُ قبل ذلك وأثناءه محضنا آخر هو علم التصوّف، لأنّ أعلام الصوفية كانوا يُكثرون من الكلام على مقام الإحسان الذي يفوق مقامي الإسلام والإيمان، ويركّزون على الحقيقة التي هي باطن الشريعة. فإذا كتبوا في الشريعة لم يقفوا عند رسومهـا الظاهرة، بل اشتغلوا ببيان أسرارها التي تمثـّل غور حقيقتها، فبدرت منهم مقالات إشـارية قريبة النسبة إلى المقاصد، غير أنّها لم تكن في عمومها منضبطة بالتقعيد الجـاري على نسق الأصول الكلية، إذ داخلتها شطحات عرفانية ينسبها أصحابها إلى "الكشـف" الذي ينكره علماء الشريعة. ومع ذلك فإنّ أكثر ما كتبوه كان وثيـق الصلة بالفقه وتفاصيل أحكامه، إذ اشتغـل عدد منهم بمتابعة فروع الأحكام متكلـّمين على حِكمها أو عللها ومقاصدها الخفية، بل كان جلّ كلامهم مخصّصا لقطاع معيّن من الشرعيات هو العبادات التي كان الفقهاء وعلماء الأصول يتردّدون في تعليلها بحجّة أنّ غالبهـا توقيفي غير معقول المعنى. ومن مشاهيرهم الحكيم الترمذي (ت: 320هـ/932م) في كتبه "الحج وأسراره"[2] و"الصلاة ومقاصدها"[3] و"إثبات العلل"[4] كما أطال الغزالي في "الإحياء" الكلام على أسرار العبادات.

ثم ظهر في القرن الثامن أبو إسحاق الشاطبي (ت: 790هـ/1388م) بمنهج متميّز في تأصيل الأصول خرج به عن الطرق الأصولية السائدة، إذ اجتهد في تأسيس نمط جديد من الكتابة يتجاوز الدوران في فلك الألفاظ جعله عنوانا للتعريف بأسرار التكليف[5] فاستكشف نسقا من "الموافقات" يقوم على مدارك كلية من مقاصد الشرع جرّأته على أن يصف ما اشتمل عليه كتابه بأنّه "قد صار علما من جملة العلوم"[6].

لكنّ المنظومة الأصولية المتوارثة كانت تتمتّع بهيبة علمية آسرة، كما أنّها كانت منضبطة في قواعد علمية محكمة الصياغة بحيث يصعب اختراقها بمنهج في كتاب واحد وبجهد علمي منفرد. لذلك لم يحدث كتاب "الموافقات" في تاريخ علم أصول الفقه الأثر الذي أحدثته الأمهات التي بقيت مصنّفات عامّة الأصوليين تدور في فلكها. فمكث جهد الشاطبي مغمورا تحت غطاء المناهج الأصولية السائدة. ويمكن القول بأنّ كتاب الموافقات كان يمثـّل مشروع علم جديد لم يكتمل، فهو ما إن كاد يضيء ما حوله حتى تضاءل نوره دون أن ينطفئ نهائيا إلى أن جاء رجال الإصلاح والتنوير فأخضعوا العلوم الإسلامية المتوارثة إلى ضروب من إعادة القراءة على نحو تدريجي في ضوء اشتغالهم بمسائل الإصلاح الديني وقضايا النهضة والتمدّن.

وفي سياق بحثهم عمّا يرونه مستنيرا من كتب التراث انتبهوا إلى أهمية إرث الشاطبي الذي بقي كلالة بغير وارث، أو بغير مستقبل حسب تعبير الجابري[7]. لكنهم اكتفوا في الغالب بالتشجيع على نشره والإشادة بأهميته، والحث على قراءته وتعليمه، ولم يهتموا بمواصلة الكتابة في الموضوع قصد إحياء فكرة تأسيس علم خاص بالمقاصد.

وكان أوّل المبادرين إلى ذلك الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي أراد أن يستأنف ما انقطع من الاهتمام بالمقاصد، ويتقدّم بالنظر فيها إلى مستوى أكثر وضوحا بمنهج نقدي يخرجها نهائيا من مضائق علم أصول الفقه حتى تستوي علما منجزا مستقلا بذاته.[8]

ويمكن إجمال مقصد الشيخ من مقاصده في مقصد مركزي هو نقد علم أصول الفقه ثم تجاوزه لتأسيس علم جديد مبنيّ على القطعيات هو علم "مقاصد الشريعة".

وقد هيمن هذا المقصد على كافة فقرات مقدّمته المنهجية التي سنحاول تحليلها تحليلا نقديا يجتهد في اختبار مدى إمكان تحقق ما صرّح به.

حدّد الشيخ منذ المنطلق محتويات الكتاب تحديدا إجماليا بأنّه يتضمّن "مباحث جليلة من مقاصد الشريعة والتمثيل لها، والاحتجاج لإثباتها"[9] فالموضوع هو المقاصد، والمنهج يجمع بين المتابعة التطبيقية والبرهنة الإثباتية.

أمّا المقصد من ذلك فيتمثـّل في طموح إصلاحي كبير يتأسس على هدف "نبراسي" أو معياري هو خدمة المتفقّهين في الدين بحيث تكون هذه المقاصد مرجعا محكّما يزيل الخلاف أو يساعد على الإقلال منه، ويسهم في استئصال التعصّب المذهبي بتدريب أتباع المذاهب على الإنصاف والاحتكام إلى الحق عند تطاير شرر الخلاف الملجئ إلى الاختيار والترجيح.

وهو ينطلق في ذلك من أزمة علمية مشهودة في الساحة الفقهية هي أزمة الخلاف الذي لا ينتهي إلى مواقف قطعية حاسمة بدليل قوله « دعاني إلى صرف الهمّة إليه ما رأيت من عسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة إذا كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها يذعن إليها المكابر، ويهتدي بها المشبّه عليه كما ينتهي أهل العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي إلى الأدلة الضروريات والمشاهدات والأصول الموضوعة، فينقطع بين الجميع الحجاج، ويرتفع بين أهل الجدل ما هم فيه من لجاج ».[10]

فالأزمة عنده منهجية حجاجية تتمثل في غياب معايير مرجعية عليا يخضع لقوتها البرهانية المختلفون، أمّا الحل الذي يقترحه فهو جعل الخلاف في مسائل الشريعة جاريا مجرى الخلاف بين أهل العلوم العقلية كالمتكلمين والفلاسفة الذين يحتكمون إلى أدلة ضرورية ومبادئ مسلـّمة بوصفها أصولا موضوعة تقطع الحجاج وترفع اللجاج.

ويظهر أنّ الشيخ ابن عاشور رام تحقيق مقصد عسير المنال يحمل في ذاته بذور استحالته، لأنّه أراد أن يطابق بين مجالين معرفيين غير متطابقين منهجا ومضمونا هما الفقهيات والعقليات.

ثمّ إنّه أراد إلحاق الفقهيات بالعقليات في صفة القطع، لكنّ هذه الصفة لم تكن متحققة تمام التحقق في العلوم العقلية على الوجه الذي ذكره، فتاريخ علم الكلام يشهد بأنّ البراهين العقلية التي كان يحتجّ بها المختلفون لم تكن جميعها حاسمة ولا منهية للخلاف واللجاج، رغم أنّ كل فرقة كانت ترى أنّ أدلتها قاطعة في إثبات مقالاتها وإبطال مقالات الخصوم. ولو كانت كل أدلتهم قطعية لما استمرّ الخلاف بينهم ولانتهى الجميع إلى مقالات واحدة ترفع إشكالية الفُرقة. بل إنّ الآثار السلبية للخلافات الكلامية كانت أعظم خطبا من آثار الخلافات الفقهية، وذلك لأنّ ادّعاء القطع يدفع إلى التعصّب أكثر ممّا يدفع إليه الاكتفاء بالظنّ الراجح.

والحاصل أنّ علم الكـلام الذي أراد الشيخ أن يجعله مثالا يَحتذي المتفقهون بمنهجه العقلي في طلب العقليـات كان بدوره يعيش أزمة خلافـات كبرى وشديدة التعقيد لم تفرز مقالات يسلـّم بها الجميع باستثنـاء الأصول الكبرى التي يتفقون عليها بداهة بحكم الإسـلام الذي يجمعهم. بل إنّ من أبرز وجوه أزمة الخلافـات الفقهية هو أنّ المقلـّدين يعتبرون اختيارات مذاهبهم قطعية ويتعصّبون لها كأنّها عقـائد يقينيّة لا يجوز اختيـار سواها.

وبناء على ذلك يمكن القول بأنّ قياس الفقهيات على العقليات بجامع القطع يصعب اعتباره سبيلا لحلّ أزمة الخلاف والتعصّب، بل قد يكون سببا في تعسيرها.

ثمّ واصل الشيخ كلامه في المقدّمة مستصحبا مقصد البحث عن قطعيات مرجعية، فانتقل من مدح العقليات إلى نقد علم أصول الفقه الذي لم يستطع أن يحقق للفقه ما حققه المنطق للعقائد من قطع ويقين.

وقد بنى نقده لعلم أصول الفقه على عدة أسس يمكن إرجاعها إلى أربع إشكاليات مترابطة تعدّ عوائق في طريق علم المقاصد:

1- أزمة الظنيات:

بعد أن شخّص الشيخ أزمة الفقه في طغيان الظنيات التي بقيت بغير حاكم مرجعي حاسم أكّد أنّ علم أصول الفقه ليس فيه "غنية لمتطلب هذا الغرض"[11] لأنّ أزمة الظنيات طغت عليه فأربكته كما أربكت الفقه. بل إنّ علم أصول الفقه كان له أثر سلبي في تعميق أزمة الخلافات الفقهية لسببين:

أولهما: أنّ الخلاف في الفروع كان تابعا للخلاف في الأصول التي بنيت عليها.

ثانيهما: أنّ قواعد الأصول معظمها منتزع من الفروع المختلف فيها، فصارت الخلافات الأصولية متأثرة بالخلافات الفقهية، لذلك يصعب أن ينتظر من قواعد الأصول أن تحسم فيما تأثرت به من ظنون الفقه. والسبب في ذلك تاريخي يعود كما أكّد الشيخ إلى أنّ « علم الأصول لم يُدوّن إلاّ بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين »[12] فالأسبقية التاريخية للفقه هي التي جعلت علم الأصول الحادث بعد تميّز المذاهب علما مذهبيا يتعذر عليه أن يرجع بالمختلفين « إلى وحدة رأي أو تقريب حال».[13]

ثم تعرّض الشيخ ابن عاشور لمحاولات الأصوليين الذين ادّعوا أنّ علم أصول الفقه قطعي القواعد، وأكّد كثافة الظنيات وندرة القواطع فيها، فردّ ما اعتذر به إمام الحرمين عن ذلك، وضعّف أدلة الشاطبي على كون أصول الفقه قطعية.[14]

2- أزمة الاجتهاد:

من المفروض أنّ علم أصول الفقه علم منهجي يُنتظر منه أن يوفر للفقهاء آليات مرجعية توظف في الاجتهاد الموضوعي بعيدا عن الضغوط المذهبية. لكنّ الشيخ لاحظ أنّ الكتابات الأصولية لم تحقق في عمومها الغرض الأصلي لعلم أصول الفقه، بل كانت عاملا مساعدا على ترسيخ التقليد والتمسّك بأقوال المذاهب. وذلك لأنّ اجتهادات الأئمّة التي صارت مذاهب إنّما ظهرت قبل تدوين علم أصول الفقه كما تقدّم بيانه، فكان هذا التدوين المتأخر عن استقرار المذاهب مؤثرا في استقلالية علم أصول الفقه الذي اقتصرت غالب قواعده على تبرير الفروع الفقهية السابقة، إذ هي حسب قوله « تمكّن المتضلع فيها من تأييد فروع انتزعها الفقهاء قبل ابتكار علم الأصول، لتكون تلك الفروع بواسطة تلك القواعد مقبولة في نفوس المزاولين لها من مقلدي المذاهب»[15]. وبهذا تعطلت آليات الاجتهاد في علم أصول الفقه وتوقفت عن الإضافة، فدخل هذا العلم في أزمة التكرار والتبرير، وقلت فائدته، إذ أنّ بعديّاته وُظّفت لخدمة القبليات المذهبية، فصار أثره رجعيا يهتمّ بتأصيل ماضي التفقه غير ملتفت إلى الابتكار التجديدي في المستقبل.

3- أزمة التفكير اللفظي:

لقد انتبه الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى نقطة ضعف مركزية داخل التفكير الأصولي حين أكّد أنّ الأصوليين « قصروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة، وعلى المعاني التي أنبأت عليها الألفاظ، وهي علل الأحكام القياسية».[16]

فهو يرى أنّ مباحث الألفاظ رغم أهميتها في فهم نصوص الشرع ليست كافية في فهم حكمة الشريعة ومقاصدها، أمّا القياس الذي أشاد الأصوليون بدوره المركزي في الاجتهاد واستكشاف علل الأحكام، فقد اعتبره الشيخ قاصرا عن تحقيق اجتهاد فسيح مبني على المقاصد، لأنّه لم يتحرّر من شبكة المنظومة اللفظية، بسبب أنّ العلل التي تتعدّى بواسطتها الأحكام إلى الفروع إنّما هي أوصاف تُنتزع من الألفاظ.

4- غياب التفكير المقاصدي:

ترتب على وجوه الخلل السابقة بقاء الكلام على المقاصد حبيس المنظومة الأصولية التقليدية بكل نقائصها المذكورة. وقد رأى الشيخ أنّ تضخيم المباحث اللفظية والقياسية أدّى إلى ضمور التفكير المقاصدي وإهمال البحث في حكمة الشريعة. ومع أنّ هذا النمط من التفكير كان موجودا في الكتب القديمة، فقد بقي مهجورا، ومبثوثا على غير قواعد عامة في بعض كتب الفقه العالية، كما ظلّ مغمورا في أواخر كتب أصول الفقه وداخل بعض مباحثها المقتضبة مثل المناسبة والإخالة في مسالك العلة، والمصالح المرسلة.[17]

وأشار الشيخ إلى أنّ بعض الأفذاذ من العلماء حاولوا تأسيس علم المقاصد الشرعية وتحريره من مضايق علم الأصول، غير أنّ العَلـَمَ الفذّ الذي أفرد فنّ المقاصد بالتدوين هو أبو إسحاق الشاطبي في موافقاته. ومع ذلك فإنّ الشاطبي في نظر الشيخ ابن عاشور لم يتمكن فعليا من إنجاز مهمة تأسيس علم المقاصد بوصفه فنّا مستقلا قائما على القطعيات، وذلك لأنّه « تطوّح في مسائله إلى تطويلات وخلط، وغفل عن مهمّات من المقاصد بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود».[18]

ولمّا لم يحقق الشاطبي مقصده من المقاصد عزم الشيخ على مواصلة ما قصر عنه جهده، فأراد أن يُسهم في تطوير مشروع الشاطبي منطلقا من حيث انتهى مع تجنّب تطويحاته واستثمار مهمّاته قصد تحقيق المقصد الذي لم ينجزه على الوجه المطلوب.

وواضح من كلام الشيخ أنّه أراد أن يطرق المهجور، ويذكّر بالمنسيّ، وأن يقوم بحفريات معرفية للتنقيب عمّا ترسّب من المقاصد مهمّشا في مضائق من علم الأصول.

ولكن كيف طرح مشروع تأسيس علم مقاصد الشريعة ؟

بيّن الشيخ ابتداء عجز الأصوليين عن تدوين أصول فقه قطعية كأصول الدين تحلّ أزمة الخلافات الفقهية مؤكّدا أنّ علم المقاصد يمكن أن يحقق ما عجز عنه علم أصول الفقه.

ومن أهمّ ما قاله في ذلك « فنحن إذا أردنا أن ندوّن أصولا قطعية للتفقه في الدين حُقّ علينا أن نعمَد إلى مسائل أصول الفقه المتعارَفة، وأن نعيد ذوبها في بُوتقَة التدوين ونعيّرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غُلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثمّ نعيد صوغ ذلك ونسمّيه علم مقاصد الشريعة، ونتركُ علم أصول الفقه على حالة تستمدّ منه طرق تركيب الأدلة».[19]

فعلم المقاصد بناء على هذا الكلام هو إعادة إنتاج لعلم أصول الفقه، أو هو صياغة جديدة له تؤسسه على القطع.

أمّا الخطوات الإجرائية لتدوين هذا العلم فهي أربع:

1- قراءة مسائل أصول الفقه المتعارفة قراءة نقدية.

2- تنقيحها بتخليصها من الأخلاط أو الزوائد غير المفيدة. ولعله يشير بذلك إلى ما ذكره الشاطبي من مسائل الكلام والنحو، وسائر المباحث الافتراضية التي لا تنتج فقها ولا عملا.

3- مزج المسائل الأصولية المستصفات بأشرف مدارك الفقه. والظاهر أنّه يقصد بذلك ما ذكره من المقاصد الجزئية المتناثرة في كتب الفقه العالية.

4- صياغة ذلك صياغة تأليفية جديدة في علم مخصوص تحت عنوان متميّز هو "علم مقاصد الشريعة".

لكنّ هذا العلم ليس بديلا عن علم أصول الفقه يريد إقصاءه من الخارطة المعرفية ليقوم على أنقاضه، إنّما الرأي عنده أن يبقى علم الأصول يمارس اختصاصه في بيان طرق الاستدلال[20] لأنّ المقاصد ليست أدلة تُستنبط منها الأحكام، فهي وإن أمكن اعتبارها كذلك من بعض الوجوه القابلة للنقاش تُعدّ في جوهرها نظرا بعديا في الأحكام المأخوذة من الأدلة، أو هي نظر عميق في معقولية الأحكام المستنبطة وحِكَمِها وغاياتها العالية.

ولمّا كان علم أصول الفقه أبا شرعيا لعلم المقاصد أضاف إليه الشيخ مهمة أخرى صاغها بقوله « نعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه غير منزو تحت سرادق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة فنجعلَ منه مبادئ لهذا العلم الجليل علم مقاصد الشريعة».[21]

ومعنى ذلك أنّ المسائل الأصولية المنقحة تدخل في أجزاء علم المقاصد، أمّا المسائل الأخرى التي لا يمكن صهرها في بوتقة التدوين فينبغي اعتبارها مبادئ يسلـّم بها علماء المقاصد وينطلقون منها لبناء مسائلهم الخاصة دون أن يشتغلوا بالبحث فيها من جديد بعد أن كفاهم الأصوليون مؤونة ذلك. فكلّ علم يحتاج إلى "مبادئ" أو "أصول موضوعة" مبيَّنة في علم آخر تتوقف عليها كثير من مسائله مثل توقف علم أصول الفقه على مبادئ من علم الكلام.

والحاصل أنّ علم المقاصد عند الشيخ ابن عاشور هو علم مركّب من علمي الفقه والأصول على نحو مبتكر يجمع بين أشرف معادنهما قصد تحقيق القطع الذي عجز عنه كلّ واحد منهما بمفرده.

ولكن هل تمكّن الشيخ فعلا في مقاصده من تحقيق مقصد القطع الذي عجز عنه المتقدّمون ؟

يبدو أنّه حين اقتحم لجّة الخوض في المسائل داخل الكتاب تقعيدا وتطبيقا تبيّن له أنّ العقبة كأداء، وأنّ المقصد الذي حدّده في المقدّمة عسير المنال، إذ أنّ تحصيل المقاصد الظنيّة أيسر من تحصيل مراقي القطع التي لا مرتقى فوقها صرّح فيما يشبه التراجع أمام وعورة المسلك على القاصد المنفرد بأنّه لم يلتزم القطع في كل ما يكتب فقال: « على أنّنا غير ملتزمين للقطع وما يقرب منه في التشريع، إذ هو منوط بالظنّ. وإنّما أردت أن تكون ثلة من القواعد القطعية ملجأ نلجأ إليه عند الاختلاف والمكابرة، وأنّ ما يحصل من تلك القواعد هو ما نسمّيه علم مقاصد الشريعة، وليس ذلك بعلم أصول الفقه»[22] لذلك استنتج الدكتور برهان النفاتي « أنّه لم يبلغ تمام مراده الذي أفصح عنه في المقدّمة، وهو تأسيس أصول ضرورية تكون منتهًى ينتهي إلى حكمه أتباع المذاهب».[23]

والمهمّ مع ذلك أنّ الشيخ شدّ الرحال لطلب القواطع على عزّتها ماضيا حقبا، فإن لم يستو له تمام مبتغاه على النحو الذي أراد يكفيه أنّه نصب في الطلب فاجتمعت له ثلة من المقاصد العالية فيها من النضج ما يؤهلها لتدشين مشروع علم جديد آخرته خير من أولاه. فهو لم يقصد إنجاز علم مغلق يختم قوله فيه كلّ مقال، بل أراد إنجاز علم واعد سمح له أن يقول في آخر الكتاب « عسى أن تنفتح به بصائر المتفقهين إلى مدارك أسمى، وتشتدّ به سواعد حِزَامتهم لأبعد مرمى».[24]

غير أنّنا نلاحظ في الختام أنّ الشيخ لم يبلغ من القواطع تمام ما أراد بسبب عجز معرفيّ أو فتور همّة، فأنّى يقال ذلك وهو علاّمة في عصره، وباحث لم يعرف عنه كلل في التقصّي ولا سآمة في التحقيق !

وإنّما يعود ذلك إلى سبب متعلـّق بذات المطلب.

بمعنى أنّ مطلب تأسيس علم ليس فيه سوى القطعيات يُعدّ مقصدا غير قابل للتحقق في أيّ علم جدير بهذه الصفة، لأنّه يناقض علميّة العلم. فالعلم الذي لا يقول أصحابه إلاّ قطعا، ولا ينطقون إلاّ جزما هو علم يكتبُ يقينُهُ شهادةَ وفاته بحكم أنّ اليقينيات لا تقبل التطوّر، ولا تساوم على وثوقيتها، وترفض النقد والاجتهاد.

وليس من طبيعة العلم أن يكون نسقا مغلقا من القواطع الرواسي كالجبال الشمّ التي لم تسيّر. كما أنّه ليس من طبيعة العلم الجاد أن يكون مجموعة من الظنيات التي لا يقين فيها.

ولا يكون العلم جديرا بانطباق إسمه على مسمّاه إلاّ إذا كانت فيه نواة مركزية من القطعيات التي تشكّل بنيته الصلبة وتضمن استمراريته، وكانت فيه كذلك مباحث حافة بتلك النواة تتفاوت في درجات الظنّ وتختلف فيها الأنظار وينمو فيها البحث بالنقد والاجتهاد.

وهكذا كان علم أصول الفقه، وكان علم الفقه أيضا. وهذا هو الذي أنجزه الشيخ فعلا في كتابه بدليل أنّه عقد فصلا قسّم فيه المقاصد إلى قطعية وظنية[25]. فقطعيات المقاصد هي نواة العلم ومرجعه المعياري عند تأزّم الخلاف، وظنياته هي ميدان الاجتهاد فيه، ووسيلته إلى تحقيق وعود التطوّر.

وبهذا جاز لنا أن نقول إنّ الشيخ ابن عاشور قد قصد مستحيلا وحقق ممكنا. والمستحيل الذي ما كان بالإمكان تأسيسه وإن قصده هو علم مقصديّ ليس فيه سوى القطع، أمّا الممكن الذي حققه وإن لم يقصده فهو علم مقصدي له نواة من القطعيات المرجعية، وحواف من الظنيات الاجتهادية.

وحسب الشيخ أنّه أعاد الاعتبار في زمن التقليد للكتابة في أسرار الشريعة ومقاصدها، وفتح مجالا تغافل عنه الناس في عصور الفراغ الأصولي، وإن ظلّ في عموم الكتاب يتحرّك داخل النسق الشاطبي مع اجتهادات شخصية ظاهرة، وتحقيقات خاصة جديرة بالنظر والدراسة.

محمد الشتيوي

الندوة الدولية « التنوير عند علماء الزيتونة في

النصف الأوّل من القرن العشرين» بالمعهد الأعلى

للحضارة الإسلامية: 12-13-14 مارس 2008


[1] - محمد الفاضل ابن عاشور: محاضرات، ص 361 (مركز النشر الجامعي: تونس/1999).

[2] - حققه حسني نصر زيدان، القاهرة / 1970.

[3] - المحقق نفسه، القاهرة / 1965.

[4] - حققه خالد زهري، المغرب، جامعة محمد الخامس ط1 / 1998.

[5] - كان يريد تسميته "عنوان التعريف بأسرار التكليف" كما صرّح بذلك في خطبة الكتاب.

[6] - الموافقات: 1/24 – دار المعرفة – مصر (د.ت).

[7] - بنية العقل العربي: ص 561 (المركز الثقافي العربي – المغرب – ط1/1986).

[8] - صدر كتاب ابن عاشور سنة 1947 قبل كتاب علال الفاسي الذي صدر سنة 1963.

[9] - ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 5 (الشركة التونسية للتوزيع، ط3، تونس 1988).

[10] - م.ن: ص.ن.

[11] - م.ن: ص.ن.

[12] - م.ن: ص 6.

[13] - م.ن: ص.ن.

[14] - م.ن: ص 6-7.

[15] - م.ن: ص 6.

[16] - م.ن: ص 6.

[17] - م.ن: ص 6.

[18] - م.ن: ص 8.

[19] - م.ن: ص 8.

[20] - م.ن: ص 8.

[21] - م.ن: ص 8.

[22] - م.ن: ص 42.

[23] - من الأصول إلى المقاصد: ص 123 (مقال ضمن ندوة حول مقاصد الشريعة الإسلامية – بيت الحكمة – تونس – قرطاج / 2006).

[24] - مقاصد الشريعة الإسلامية: ص 207.

[25] - م.ن: ص 40.

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © الماسة