إشكالية الإجتهاد بين العقيدة والتاريخ(العرف والمرأة نموذجا)

تثير مسألة الاجتهاد قضايا متعددة تشعب الحياة الخصيبة بالمتوقع واللاَمتوقع و لعل أهم ما يشغل اهتمام الباحثين في تاريخ التفكير الفقهي لدى المسلمين ، تراوح الاجتهاد بين الحركية و الركود ، أو بين الاجتهاد و التقليد .
وليس من غرضنا استعراض أبرز ما قيل في تفسير عوامل تثاقل حركة الاجتهاد في مراحل دون أخرى ، و إنما حسبنا أن نؤكد ابتداء أنها تظل حركة مشروطة في جميع مراحلها غير أن اقتحام ميدان الاجتهاد بشجاعة حرصا على العلم أو الرضا تقييداً طلبا للسلامة أمران يختلفان باختلاف مناهج النظر إلى شروط النظر الفقهي تقليدا و إرسالا .
ولا نقصد بالشروط هنا خصوص ما يقال في شروط المجتهد بل نقصد عموم المسلمات الإيمانية و الشرعية ، و الخلفيات الفكرية و التاريخية التي يستصحبها الفقيه ضمنيا أو صراحة عند ممارسة النظر تفقها أو تفقيها ، و إفتاء أو قضاء .
وما الشروط سوى ضوابط و أطر تمنح حركة الاجتهاد مشروعيتها وانتظامها داخل النسق الإسلامي العام .غير أن هذه الشروط أو القبليات التي سماها القدماء "مبادئ" 1 مصنفة لديهم حسب بنية متدرجة يحكم أعلاها في أدناها، بعضها كلي و بعضها فرعي فيها الثابت الذي لا يجيزون تغيره ، وفيها ما يكون محل اجتهاد يقبل النقاش و التفاوض .
ولا ريب أن أرقى المسلَّمات التي ينبغي استصحابها عند جميع العلماء بما فيهم علماء الفقه و الأصول -هي مبادئ العقيدة و أصول الإيمان ، إذ هي أرسخ الثوابت و أكبر اليقينيات .
والحاصل أنه يمكن بناء على ما تقدم حصر إشكالية الاجتهاد إجمالا في جدلية معروفة هي جدلية " الثبات و التغير " أو " المثال و الواقع " إذ إِنّ الفقيه يجد نفسه باستمرار في مواجهة التقابل بين الثوابت أو الأحكام الإيمانية و الشرعية المقدسة التي يجب التقيد بها ، و الواقع العملي و التاريخي المتغير الذي يجب مدُّه بالحلول الفقهية اللازمة . و ما الفقيه سوى " وسيط معرفي " بين المثال و الواقع يتراوح بينهما تفهما و إبانة و تطبيقا مع حرص شديد على تحقيق التطابق بين المثال والامتثال ، فالمثال يشده إلى الثبات و يخيفه من الاسترسال في إعمال العقل أو الإسراف في التفكير ، بينما الواقع يضغط عليه بمشاكله المتجددة التي يجب التفكير فيها بمسؤولية وجدية .
وسنحاول -فيما يلي من القول- النظر في هذه الجدلية من خلال أقصى طرفيها، أي أقوى الثوابت و أخف المتغيرات ، أو أرقى المثاليات و أكثرها تجاوزا للتاريخ من جهة ، و أقرب الواقعيات و أكثرها خضوعا لتحولات التاريخ من جهة أخرى. و نقصد بذلك العقيدة بوصفها مبادئ ثابتة و مسلَّمة والاجتهاد غير النَّصِّيِّ المحكِّم للأعراف و العادات بوصفه نظرا في حيثيات اجتماعية مرجعها تواطؤ الناس قولاً وعملاً.
I – بين الحكم الأزلي والاجتهاد الزمني
ليس عجيبا أن يدخل عنصر العقيدة في إشكالية الاجتهاد بل إن إهماله هو الأعجب. و لا غرابة في أن نقول: إنها في عمقها إشكالية اعتقادية بالأساس. ولا نقصد بهذا إنزال أصول العقيدة إلى ساحة الاجتهاد بالمعنى الاصطلاحي – خصوصا وأن الفقهاء لا يعتبرون العقائد من الاجتهاديات بل من القطعيات – وإنما نريد التنبيه على مدى حضور المعتقد في الممارسة الفقهية لندرك أن الخلفية العقدية كانت و لا تزال مرجعية ضاغطة لها تأثير واضح في تثاقل حركة الاجتهاد في أزمنة التقليد حيث كانت مبادئ العقيدة تمثل غطاء تبريريا للمتخوفين من تحمُّل مسؤولية الاجتهاد. وليس معنى ذلك أن المبادرين إلى الاجتهاد من كبار الفقهاء كانوا أقل إيمانا من المقلدين، بل كانوا في تقديرنا أكثر قدرة على التوفيق بين العقائد الأزلية والممارسة الفقهية النسبية التي تعرف حدود قدراتها.
وتفصيل الأدلة على أهمية هذا التأطير الإيماني للإشكالية يطول ، و إنما نكتفي بتأكيد ذلك من جهة مفهومي الحكم الشرعي و الاجتهاد ، ثم نتكلم بعد ذلك على الاجتهاد العرفي المتعلق بالمرأة و الأسرة .
1- مفهوم الحكم الشرعي
عرَّف الأصوليون و الفقهاء الحكم الشرعي عدة تعريفات أهمها أنه "خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير"2، فالحكم الذي يستنبطه الفقيه هو خطاب الله نفسه، وبما أن أهل السنة يعتقدون أنَ خطاب الله أزلي قديم فإن الحكم الشرعي عندهم أزلي يتجاوز الزمان ، و هو تبعا لذلك صفة من صفات الله 3 .
وبناء على هذا يجد الفقيه نفسه في أصل العقيدة لأنه يبحث في موضوع إيماني قبل أن يكون تشريعيا عمليا ، و قد استشكل الأصوليون العلاقة بين فعل الإنسان الحادث في الزمن و خطاب الله الأزلي الثابت في حق الفعل قبل خلق الكون و الحياة ، فأطالوا الخوض في ذلك ، و كان من بين أشهر أجوبتهم أن خطاب الله ، أي حكمه ، قديم متعلق بأفعال العباد تعلقا معنويا قديما ، لكنه يتعلق بها تعلقا " تنجيزيا " حادثا 4 أي متجددا في الزمن التاريخي .
ومهما يكن الجواب فالذي يهمنا هو إثبات وعي الفقهاء بعمق إشكالية العلاقة بين العقيدة والفقه ، أواللازمني والزمني .
وليس الأمر مقصوراً على ما ذكرنا ، بل يمكن أن نضيف أنَ خطاب الله الذي هو حكمه و صفته لا ينحصر في خصوص النص القرآني عند الفقهاء ، بل إن ما ثبت بالسُّنَّة والإجماع والقياس، وسائر أصول الاجتهاد يدخل في مسمَّى الخطاب المذكور في التعريف، وبذلك تزداد العلاقة بين المطلق و النسبي تعقيدا، غير أن علماء أصول الفقه يدفعون هذا الإشكال بقولهم: إن هذه الأدلة غير القرآنية ليست " مثبتة " للحكم ، بل معرِّفات للأحكام، والأحكام ثابتة قبلها؛ لأنها قائمة بذات الله -تعالى- " حسب تعبير أبي الثناء الأصبهاني5 (تـ 749 هـ / 1338 م).
2- مفهوم الاجتهاد
يظهر مما تقدم أن الاجتهاد الفقهي موضوعه أو مطلوبه اعتقادي هو خطاب الله الأزلي الذي هو حكمه و صفته ، وأن المجتهد حين يستنبط الحكم من النص أو بالقياس ونحوه لا يثبت حكما جديدا بل يعرَف بالحكم الأزلي القديم، يؤكد ذلك مفهوم الاجتهاد في اصطلاح الأصوليين ، فقد عرَّفوه بعدة تعريفات متقاربة منها قول ابن الحاجب ( تـ 571 هـ / 1175 م ): هو " استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي6". فالفقيه بناء على هذا لا ينشئ حكما جديدا حين يجتهد أو يفتي و إنما يحصل الحكم الشرعي الأزلي ويطلبه ثم يخبر به ولو كان اجتهاده قولاً لم يسبق أن قال به أحد قبله. وبهذا يصير التجديد الحادث في التاريخ مشدودا إلى المطلق واللا زمني. ويتأكد لنا ما قلناه في البداية من أن الفقيه "وسيط معرفي" بين المثال الثابت والواقع المتغير.
وهذا الكلام يصلح أن يكون وجها من وجوه تفسير تشدد كثير من الفقهاء والمفتين قديما و حديثا ورفضهم إبداء أي مرونة أمام كثير من المستجدات التي يفرزها التاريخ المتحول، وقد نُقِلَت عن كبار الفقهاء ومجتهديهم كثير من الأقوال الدالة على وَرَعِهم وتحرجهم من الفتوى، وهو ورع منبعه الإيمان، والاعتقاد في وجود الجنة و النار، والوعي بأن الفقيه عندما ينطق بالحكم إنما ينطق بحكم الله، بل و يوَقع منه، ولهذا اعتبر المجتهدون موقِّعين عن رب العالمين7. ومن الأقوال المروية في ذلك قول الإمام أحمد بن حنبل " من عَرَّضَ نفسه للفتيا فقد عَرَّضَها لأمر عظيم، إلا أنه قد تلجئ إليه الضرورة ، قيل له : فأيما أفضل الكلام أم السكوت؟ قال: الإمساك أحب إلي ، قيل له: فإذا كانت الضرورة ؟ فجعل يقول: الضرورة، الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له، و ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره و نهيه ، و أنه موقوف و مسؤول عن ذلك" 8.
ومع ذلك كله فقد كان أئمة المذاهب السنية الأربعة و غيرهم من المجتهدين يمارسون الاجتهاد بجرأة عجيبة أحيانا ويفتون ويواجهون سيل الأسئلة التي كان يفرزها الواقع ليس تحت غطاء الضرورة فقط ، بل لشعورهم بالواجب ، ولخوفهم من عاقبة كتمان العلم. ومن أهم ما كان يخفف عنهم ضغوط المخاوف الإيمانية اعتقادهم أنهم في مجال الاجتهاد الفقهي ليسوا مطالبين بتحصيل اليقين كما هو الحال في العقيدة، وإنما يكفيهم تحصيل " الظن " بالحكم الشرعي كما سبق في تعريف الاجتهاد، فهم ليسوا متعبَدين بتيقن الحق في ذاته ، بل يكفيهم غلبة الظن ، وحكم الله في اجتهاد كل مجتهد ما يغلب على ظنه ، لذلك فهو إذا اجتهد و أصاب كان له أجران أما إذا أخطأ فله أجر واحد و لا إثم في الحالتين ولا لوم ، و لهذا عَرَّفَ الرازي الاجتهاد بأنه " استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم ، مع استفراغ الوسع فيه " 9 فهم بناء على ذلك مكلفون بإدراك حكم الله الذي يؤمنون بأزليته في حدود نسبيتهم ، و في إطار ظروفهم الزمنية الحادثة و المتغيرة .
II- العرف و العادة : مرونة تاريخية محاطة بالثوابت
لا يخرج الاجتهاد المبني على العرف عن الإشكالية المطروحة ، بل لعله أشد قواعد الاجتهاد إحراجا للفقيه؛ لأنه لا ينطق بحكم الله بناء على نص ظاهر الدلالة أو خفيها ، و إنما يستند إلى ما أحدثه الناس من أعراف اعتادوا عليها في مراحل تاريخية معينة. و الفقهاء مع ذلك يرون أن ما يحسِّنه العرف ينبغي العمل به بوصفه حكم الله الأزلي و مما استندوا إليه في ذلك خبر منقول قيل: إنه مرفوع إلى النبي (، و الأرجح أنه قول موقوف على الصحابي عبد الله بن مسعود: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " 10. وهكذا تكون الأعراف المستحدثة عبر مسار التاريخ تعبيرا عن حكم الله الأزلي .
وبناء على ذلك فقد أوجب الفقهاء العمل بالعرف بناء على قاعدة صاغوها بقولهم: " العادة محكَمة " و اعتبروها واحدة من خمس قواعد كبرى يدور عليها الفقه الإسلامي11 وغذَّوها بقواعد أخرى متكاملة تدل على مرونة الأعراف و لزوم تحكيمها مثل قولهم: " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" و "المعروف عرفا كالمشروط شرطا " و " التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " 12 .
ومما يدل على مدى إلزامية العرف أو العادة قول القرافي الفقيه المالكي ( تـ 684 هـ / 1285 م ): " العادة غلبة معنى من المعاني على الناس ، و قد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم كالحاجة للغذاء والتنفس في الهواء، وقد تكون خاصة ببعض البلاد كالنقود والعيوب، وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام، و الناقوس للنصارى ، فهذه العادة يُقْضَى بها عندنا "13، فكلمة الغلبة في تعريف القرافي تدل بوضوح على ما يحظى به العرف من قوة ضغط اجتماعي بحيث يكون الخارج عنه شاذاً عما أقرته الجماعة العامة أو الخاصة . بل إن مِثَالَيِ الغذاء و الهواء المذكورين يصلان بالعرف إلى مستوى الضروريات الحتمية .
غير أنَّ الاجتهاد بالعرف ليس مطلقا بغير ضوابط ، فهو مشروط بالإطار العقدي و الديني العام كأي اجتهاد آخر ، بل هو خاضع لقيود الشروط أكثر من غيره لأنه لا يستند إلى نصوص صريحة ، خصوصاً و أنه لا يعتبر مصدراً من مصادر التشريع على جهة الاستقلال كالقرآن و السنة و الإجماع، وإنما هو قاعدة في القضاء و الفتوى يراعيها الفقهاء حين يصدرون أحكاما في خصوص وقائع معينة ، ومن هذه الشروط أَلاَّ يكون العرف فاسدا، وألاَّ يعطِّل نصا أو يناقص أصلاً من الأصول الشرعية القطعية، وألاّ يعارضه دليل أقوى منه كالإجماع والقياس، وأن يكون مطَّردا بين متعارفيه في جميع معاملاتهم، وأن يكون موجوداً عند إنشاء التصرفات، وكذلك ألاّ يعارضه تصريح بخلافه 14.
ومن شأن هذه الشروط أن تضيِّق مجال العمل بالعرف لأنها تحيطه بسياج كثيف من الضوابط التي تجعله من آخر ما يلجأ إليه في بعض فروع الشريعة لا في جميعها ، بل إنه يعمل به كما صرَّح فقهاء المالكية في الأحكام التي وكَّل الشرع أمرها إلى العرف كألفاظ الناس في الأيمان و العقود و الفسوخ حيث يحكَم في تخصيصها أو تقييدها ، وكتقدير نفقات الزوجات و الأقارب و كسوتهم15 ونحو ذلك مما يصعب اعتباره أحكاما تراعي حركية التحولات الاجتماعية مراعاة شاملة و مُؤَثِّرة في إحداث تغيرات نوعية ، بل الملاحظ أن أغلب أحكامه تكاد تقتصر على مسائل إجرائية، وتراتيب عملية تنفيذية لا ترقى إلى مستوى الإسهام في متابعة التطور التاريخي بناء على رؤية تأسيسية شاملة .
صحيح أنه وجدت بعض الفتاوى الجريئة التي خالفت أحيانا أقوال أئمة سابقين ، أو بعض الأصول المقررة ، لكنها تظل ضربا من الاستثناء غير المُؤَثَّر.
أما إذا نظرنا إلى الأعراف المتعلقة بالمرأة و الأسرة فإن طوق الشروط يزداد ضيقا لأن الموضوع ذو حساسية شديدة ، و محاصر بكثير من الخلفيات الموروثة ، بل إنَ الأعراف و التقاليد نفسها تعتبر في حد ذاتها قيودا إضافية على وضعية المرأة يُرَسِّخُهَا تقادم التاريخ و استمرار العمل بحكم سيطرة الرجال على النساء في المجتمعات القديمة .
أضف إلى ذلك أن عقيدة المسلمين في الخلق الإلهي تفرض عليهم الإيمان اليقيني بأنه ( لا تبديل لخلق الله ( 16، و بأن سننه في الخلق و التكوين ثابتة لا تتغير ، و لا ريب أن الفقهاء ينظرون إلى المرأة نظرة مؤسسة على أنها مخلوق إلهي ذو خصائص أنثوية لا يجوز تغييرها ، و لها أحكام شرعية تطابق خلقها بوصفها أنثى ، لذلك فإن كل اجتهاد يميل إلى تطوير النظر في أحكام المرأة بما يخالف في نظرهم ما خلقها الله عليه يعَد منكرا من القول يصادم عقيدة الخلق ، وهذا الاعتقاد يعتبر أحد أبرز العوامل التي تفسِّر تشدد عامة الفقهاء في خصوص أحكام المرأة .
غير أنَ ما تقدم ذكره لم يكن عبر التاريخ بالصورة الضيقة التي بيَّنا بعض وجوهها ، و ذلك لأن احتمالية عدة نصوص ، ومرونة عدد من الأعراف كانت تسمح بإنشاء فتاوى فيها قدر لا يستهان به من احترام مكانة المرأة و الاعتراف بشخصيتها القانونية أو بأهليتها الحقوقية و التكليفية ، و عندما ننظر في فتاوى المالكية بالغرب الإسلامي قديما نلاحظ وجود أحكام من هذا الصنف سواء أكانت موافقة لمذهب مالك و أقوال كبار تلامذته و مقلِّديه أم كانت مخالفة لهم ، كما نجد فيها ما يراعي مصالح الأسرة وضبط العقود ، و إحكام الفصل بين الخصومات ، و نجد أيضا بعض ما يخالف الأصول و ظواهر النصوص ، و يشكك في الوثوق بأقوال المرأة ، و لا يهتم بمراعاة إرادتها .
ومن أمثلة ذلك أن المالكية كانوا يفتون بما ذهب إليه مالك من مراعاة العرف في الرضاع إذ خصص به آية (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين( 17 فلم يجعله عاما في كل الأمهات بل أخرج منه المرأة الشريفة ذات التَّرفُّه ، إذ ليس من عرف أمثالها الالتزام بالإرضاع فصار كالشرط 18، والمعروف عرفا كالمشروط شرطا . والملاحظ أن هذا عرف خاص ببعض الأسر المترفهة، إن كان يراعي عادة المرأة و كمالياتها فهو لا يراعي تبادل الواجبات الأسرية بين الرجل و المرأة ، بل لا يراعي مصلحة الولد الذي يحتاج إلى لبن أمه، و يوجب على الزوج استئجار ظئر ترضع ولده، ولا يجبر أمثال هذه المرأة على الإرضاع إلا إذا رفض الولد أن يرضع غيرها 19.
ومن الأحكام التي اعتبر فيها العرف إرادة المرأة ، عرف قديم خاص بأهل القيروان تشترط فيه المرأة على الرجل أن يكون طلاقها بيدها إذا تزوج عليها غيرها، ومع ذلك فقد أفتى ابن عرفة (تـ : 803 هـ / 1402 م) بمخالفة هذا العرف إذا أخرجها الزوج من القيروان بغير رضاها20، رغم أنَّ هذا الفعل يدل على حيلة ظاهرة يقصد بها الزوج إخراج المرأة من المحيط الجغرافي الذي يتقيد بالعرف المذكور.
ومن الأعراف المخالفة للنصوص ما جرت عليه العادة بإفريقية قديما بل إلى عهود قريبة من أن وصف العروس للخاطب من قبل ذوي الخبرة بالجمال يبيح تزويجها له ، رغم أن الأصل يقتضي أن يُمَكَّنَ الخاطب من رؤية العروس خصوصا إذا طلب ذلك ، و قد حدث أنَّ ابن عرفة تعرَّض لبعض المشاكل عندما أراد مخالفة العرف والعمل بالأصل الذي يقتضي الرؤية. وقد حدث له ذلك في زواج إحدى بنات سراة القوم ، فاضطُرَّ إلى مسايرة العرف والإقرار بصحة الزواج بمجرد الوصف21. وهذا مثال للأعراف الضاغطة التي تتجاوز أصول الشرع ولا تعترف بسلطة الفقهاء.
ومن أمثلة مراعاة ابن عرفة لتنوع الأعراف أنه أجاز ما عرف قديما في بعض البوادي بزواج " الجفنة " حيث كان يكتفى بالوليمة بوصفها شهادة على الزواج ، لكنه لم يجز ذلك لسكان المدن و الحواضر الذين تعارفوا على كتابة الصداق22. ويظهر من هذه الفتوى أنَ الزواج العرفي ليس خاصا بالذي ليس فيه توثيق رسمي ، بل إنَ كتابة الصداق تعتبر بدورها عرفا مستحدثا، وهو عرف يحقق مصلحة جميع الأطراف ويسهم في استقرار العلاقات و المحافظة على الحقوق عند التنازع مثل إثبات النسب ، و توزيع التركات و الحكم بالنفقة .
ومن الأعراف التي تسلب الثقة التي منحها الشرع للمرأة ما جرى به العمل من الاعتداد بالأشهر. فالنصوص صريحة في أنَ المرأة التي تحيض تعتَّد بالأقراء كما في آية (والمطلَقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء(23، فالأصل أن المطلَقة لا تحلَ للأزواج إلا إذا رأت الحيضة الثالثة و أنها تصدَّق إذا أخبرت بذلك عن نفسها. لكن الذي جرى عليه العمل عند المغاربة و أفتى به فقهاء المالكية أنها لا تصدَّق في أقل من ثلاثة أشهر، بمعنى أنه لا بد أن تعتدَّ ثلاثة أشهر مع اعتبار الأقراء منذ يوم طلاقها وقد علَّلوا ذلك بفساد الزمان و رقَّة الأديان 24.
و المشهور في المذهب المالكي أن المرأة تصدَّق في بكارتها و في سلامتها من الأمراض الجنسية إذا ادَّعى الزوج أنها مريضة أو ليست بكرا . لكن الإمام سحنون ( تـ 240 هـ / 854 م ) خالف قول مالك و أصحابه و أفتى بجواز نظر النساء إليها للتأكد من صحة أقوالها ، و مما علَّل به فتواه أن ذلك جرى العمل به عند متأخري الفقهاء، وهذه الفتوى تنطبق على الرجال كذلك إذا طلبت المرأة الطلاق لعيب جنسي فيه25، وهي فتوى معقولة تعوضها حديثا الشهادات الطبية لأن حالات التنازع لا يكتفى فيها بمجرد الادعاء.
ومن الفتاوى التي ظهر فيها الميل إلى إقرار ما يساعد على تحقيق التعاون داخل الأسرة مسألة " الشّوار" بالضم و الفتح في الشين وهو متاع البيت و جهاز العروس، فالأصل في الشريعة يقتضي أن يلزم الزوج بالصداق و لا تلزم العروس و لا أبوها بشيء ، لكن العادة جرت قديما في المهدية و في كثير من مدن المغرب مثل فاس بأن والد العروس يلتزم من الجهاز بمثله ، و مع أن هذه العادة نشأت في الأصل على سبيل المكارمة و التعاون دون إِلزامات قضائية فإن الإمام المازري (تـ 451 هـ/1058 م ) و غيره من فقهاء إفريقية و المغرب أفتوا بإلزام العروس أو الأب أو الولي بذلك عند النزاع و مطالبة الزوج بالشَوار أمام القضاء إذا شهد الشهود أن عرف البلد يقتضي ذلك، هذا مع إقرارهم أن الجهاز محمول في الأصل على الاستحباب والتعاون والمكارمة ، لكن القضاء يتدخل ليحكم بناء على العرف إذا حصل نزاع بعد الدخول لا قبله 26.
هذه نماذج من الفتاوى الخاصة بالأسرة و المرأة في الغرب الإسلامي قديما وليس من غرضنا التوقف لتقويمها أو نقدها ، فقد كانت وليدة تاريخها الخاص وظروفها الاجتماعية الماضية، ويكفينا أن نشير إلى أن ثوابت العقيدة وشروط التقيد بالأصول لم تمنع الفقهاء من تحكيم ضغوط الأعراف الحادثة في تاريخهم ولو خالفوا بعض الأصول والأقوال المستقرة قبلهم في المذهب المالكي، بل هم يذهبون إلى أن ما حَسَّنوه من الأحكام بناء على العرف الذي يفرزه المجتمع هو حسن عند الله و هو حكمه الأزلي المتعلق بواقعهم تعلقا تنجيزيا حادثا في الزمان.
لكن كثيراً من الأعراف القديمة التي بنيت عليها فتاوى الفقهاء السابقين تغيرت في هذا العصر الذي صارت له أعراف و عادات اجتماعية مغايرة لما مضى بسبب عمق التحولات التاريخية و الحضارية و ارتفاع مستوى التعليم واقتحام المرأة كثيرا من الميادين التي كانت غائبة عنها .
وعند هذا الحد يصير للإشكالية وجه معاصر تضيق عنه حدود هذه المداخلة .
______________________
1 - يقصدون بذلك المسلَّمات التي تقبل تقليداً دون برهان؛ لأنه برهن عليها في علم آخر ، إذ لا حاجة إلى إعادة البرهنة عليها مجددا .
2 – الإسنوي، نهاية السول في شرح منهاج الأصول، دار ابن حزم، بيروت، ط 1 /1999م، ج1، ص31.
3 - قال علاء الدين السمرقندي :" حكم الله –تعالى- صفة أزلية له هو فعله " ميزان الأصول 1/112، وزارة الأوقاف العراقية، ط 1 / 1987م.
4 - حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع ، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان، د . ت، ج1، ص 67-68.
5 - بيان المختصر / شرح مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه، دار السلام، القاهرة، ط1/2004م، ج1، ص206.
6 - منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول و الجدل، دار الكتب العلمية – بيروت – ط 1 /1985م، ص 209.
7 - لابن قيم الجوزية كتاب مشهور بعنوان " إعلام الموقعين عن رب العالمين "، دار الفكر، بيروت، ط 2 /1977م. ومن ذلك قول ابن المشاط المالكي المالكي "المفتي مع الله كالمترجم مع القاضي"، الجواهر الثمينة في بيان أدلة عالم المدينة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 2، 1990م، ص 275.
8 - ابن عبد البر القرطبي، "جامع بيان العلم و فضله" 1/177، دار الكتب العلمية، بيروت، 1978م.
9 - المحصول في علم أصول الفقه، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 /1988م، ج2، ص489.
10 - ابن نجيم، الأشباه و النظائر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 / 1981م، ص 89.
11 - م . ن : ص 7.
12 - عبد الكريم زيدان، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، مكتبة القدس، مؤسسة الرسالة، ط 5 /1976م، ص 102.
13 - شرح تنقيح الفصول، دار الفكر، القاهرة، ط 1/1973م، ص 448.
14 - مثال ذلك إذا كان العرف الجاري تعجيل نصف المهر و تأخير نصفه لكن الزوجة شرطت تعجيل كل المهر، وقَبِلَ الزوج ذلك -فإن العرف لا يُحَكَّم في هذه الحالة لأنه لا يلجأ إليه إلا إذا لم يوجد ما يفيد مقصود العاقدين صراحة . انظر : بدران أبو العينين " أصول الفقه الإسلامي، مؤسسة الرسالة، الإسكندرية، مصر /1984م، ص 229-230.
15 - حسن بن المشاط، الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة، ص 271.
16 - سورة الروم، الآية 30.
17 - سورة البقرة، الآية 233.
18 - 19 – القرطبي، " الجامع لأحكام القرآن، دار إحياء التراث، بيروت، ط 2 /1952م، ج3، ص161.
20 - سعد غراب، ابن عرفة والمنزع العقلي ، الدار التونسية للنشر – ط 1/1983م، ص 174 –175.
21 - محمد الشتيوي، تاريخ المذاهب الفقهية بإفريقية، المركز القومي البيداغوجي، تونس، ط 1 / 1998م، ص 108-109.
22 - م . ن، ص 108.
23 - سورة البقرة، الآية 228.
24 - عبد الكريم الجيدي، العرف و العمل في المذهب المالكي، المحمدية، الغرب / 1982م ، ص 40 – 431.
25 - م .ن، ص 434-435.
26 - الطاهر المعموري، فتاوى المازري ، الدار التونسية للنشر/ 1994م، ص 120 – 121، وعبد الكريم الجيدي، م . سابق ، ص 432 –433.

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © الماسة