الزمان / ذى الحجة 11 هجرية
المكان / عقرباء شرق شبة الجزيرة العربية 'اليمامة'
الموضوع / المسلمون يخوضون أشرس معاركهم ضد المرتدين بقيادة 'مسيلمة' الكذاب .
من مسيلمة الكذاب ؟
اسمه 'هارون بن حبيب الحنفى' ، من قبيلة باليمامة ولقبه 'مسيلمة'، وأشتهر باسم 'رحمان اليمامة' وكان قد ادعى النبوة، وتكهن أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وفد 'مسيلمة' مع وفد قبيلته 'بنى حنيفة' فى سنة 9 هجرية المعروفة بعام الوفود، واختلفت الروايات فى 'مسيلمة الكذاب' هل أسلم ثم ارتد، أم لم يسلم أصلاً ؟ والظاهر أنه لم يسلم أصلاً ، حيث صدر منه الاستنكاف والأنفة والطموح إلى الرياسة، وكان عمره وقتها مائة وأربعين سنة، وقد قال للوفد بعد أن رجعوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم : 'إن جعل لى محمد الأمر من بعده تبعته'، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتألفه لما تفرس فيه من طموح وكبر، فجاء خيمة 'بنى حنيفة' ومعه خطيبه 'ثابت بن قيس' وكلم 'مسيلمة'، فقال له 'مسيلمة' :'إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا من بعدك' فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم 'لو سألتنى هذه القطعة 'قطعة من جريد' ما أعطيتكها، ولن تعدو أمر الله فيك، ولئن أدبرت ليعقرنك الله' .
فلما رجع 'مسيلمة' إلى قومه أتاه شيطان رجيم، وأخذ يرتجز له ويؤزه لإظهار دعوته،فادعى النبوة فى حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحل لقومه الخمر والزنا فتبعوه، وهو مع ذلك يعترف للرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة، وكتب كتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم قال فيه : ' إنى أشركت فى الأمر معك، وإن لنا نصف الأمر ولقريش نصف الأمر' فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم بكتاب قال فيه : 'إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين' الأعراف : 128
وقد أرسل له الرسول صلى الله عليه وسلم رجلاً من عنده اسمه 'نهار الرجال بن عنفوه' ليثبت أهل 'اليمامة' ويعلمهم ويقف أمام 'مسيلمة الكذاب'، فكان هذا 'الرجال' أعظم فتنة على 'بنى حنيفة' من 'مسيلمة' نفسه، حيث قال هذا الضال الخائن :'إن محمداً قد قال إن 'مسيلمة' قد أشرك معه'، فصدقوه، واستجابوا له، وعظم خطره جداً، وكان يحب تقليد الرسول صلى الله عليه وسلم فى أفعاله عملاً بنصيحة الخائن الضال 'الرجال بن عنفوه' .
وكانت أفعاله تأتى عكس مراده، وتظهر كذبه وضلاله، فقد بلغه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمسح بيده على رؤس الأطفال ويحنكهم، ففعل نفس الأمر فقرع كل صبى مسح رأسه، ولثغ كل صبى حنكه، وإنما استبان ذلك كله بعد هلاكه .
ولعل الذى قوى شأن 'مسيلمة الكذاب' عدة أمور منها : قوة قبيلته 'بنى حنيفة' وكثرتها، وفتنة اللعين 'الرجال بن عنفوه'، والعصبية القبلية التى لعب عليها، حيث إنه من 'ربيعة' التى تكن عداوة 'لمضر' التى منها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويظهر ذلك جلياً فى قول 'طلحة النمرى' عندما سأل 'مسيلمة'عن حاله والوحى الذى يأتيه فقال 'مسيلمة' :'يأتى فى ظلمة' فقال طلحة النمرى له :'أشهد أنك الكاذب وان محمداً صادقاً، ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر'، فروح العصبية الجاهلية القبلية مازالت مسيطرة على عقول كثير من القبائل العربية، ولو رجعنا للخلف قليلاً إلى عام 11 من النبوة، وهو العام الذى بدأ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عرض الإسلام على القبائل خارج مكة، ومن القبائل التى عرض عليها الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة 'بنى حنيفة'، وذهب إلى منازلهم، فلم يكن أحد أقبح عليه منهم، وكل هذه العوامل جعلت دعوة 'مسيلمة' قوية وخطيرة جداً .
الخليفة أبو بكر وحركة الردة
عندما قامت حركة الردة، واشتعل أوارها فى شبة الجزيرة العربية عقد الخليفة 'أبو بكر' أحد عشر لواء لمواجهة حركة الردة فى كل مكان، وفى آن واحد، وقد وجه 'الصديق' كلا من 'عكرمة بن أبى جهل' و'شرحبيل بن حسنة' إلى 'بنى حنيفة'، وأمرهما ألا يشتبكا معهم حتى يفرغ المسلمون من 'طليحة الأسدى'،فتسرع 'عكرمة' واشتبك مع 'مسيلمة' و'بنى حنيفة' فهزم، فعنفه الخليفة 'أبو بكر' وقال له 'لا ترانى ولا أراك، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى 'حذيفة' و'عرفجة' فقاتل أهل 'عمان' و'مهرة'، ثم تسير أنت وجندك تستبرئون الناس حتى تلقى 'المهاجر بن أبى أمية' باليمن وحضرموت .
*{هذه عاقبة مخالفة الأوامر، فإن كل عمل مبنى على نظام وترتيب لابد أن ينجح بإذن الله، وأى عمل غير منظم فهو إلى الفشل صائر ولابد، كما أن طاعة الأمير فى غير معصية من طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت بذلك الحديث الصحيح، ويتضح لنا أيضاً مدى فقة الخليفة 'أبو بكر' الذى منع المنهزمين من العودة حتى لا يهنوا الناس، ويدخل الهزيمة النفسية إلى قلوبهم، ويؤثروا على معنويات المسلمين فى هذه الفترة العصيبة، وهم يقاتلون عدوهم فى كل موطن، وهو مع ذلك لم يكسر 'عكرمة' بل وجهه وجهة جديدة يفرغ فيها طاقته لنصرة الدين، وهو يعلم أنه سيبذل كل وسعه لاستدراك خطئه السابق، فكم من درس أعطانا إياها 'الصديق' رضى الله عنه }
بعد أن رأى الخليفة 'أبو بكر' قوة شوكة 'مسيلمة الكذاب' قرر أن يرميه بأقوى الألوية الإسلامية، وهو اللواء الذى يقوده الأسد الجسور 'خالد بن الوليد' رضى الله عنه، وبالفعل تحرك لواء 'خالد' إلى اليمامة، وصحبه الكثير من الأنصار، وكان يحمل لواء الأنصار 'ثابت بن قيس' ويحمل لواء المهاجرين 'أبو حذيفة بن عتبة' و'زيد بن الخطاب' .
وصلت الأخبار إلى 'بنى حنيفة' و'مسيلمة الكذاب'، فضرب معسكره عند منطقة 'عقرباء' ودعا الناس للقدوم إليه، فتقاطر الناس إليه دفاعاً عن العصبية القبلية، وليس إيماناً بدعوة الكذاب، وكان ممن خرج من 'بنى حنيفة' رجل داهية اسمه 'مجاعة بن مرارة' فى سرية يطلب ثأراً لهم من قبيلة 'بنى عامر'، فأسره المسلمون وأصحابه فقتلوهم جميعاً، واستبقوا 'مجاعة' لمكانته فى 'بنى حنيفة'، وخرج 'مسيلمة' بالأموال والنساء، وقام فى 'بنى حنيفة' خطيباً : {يا'بنى حنيفة' قاتلوا اليوم فإن اليوم يوم الغيرة، فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير خطيبات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم }، وهكذا استطاع 'مسيلمة' أن يلعب على وتر العصبية وصيانة الأعراض، وهى أمور تجعل القتال على أشده، ويجعل الناس يقاتلون حتى الموت، وقد كان .
معركة عقرباء الرهيبة
استقر الأمر على القتال وكان جيش 'مسيلمة الكذاب' قد بلغ أربعين ألفاً، فى حين أن المسلمين لا يتجاوز تعدادهم عشرة آلاف مقاتل، واندلع القتال، وكان أول وقود المعركة دم الخائن الكافر الضال 'نهار الرجال بن عنفوه' عندما قتله الصحابى 'زيد بن الخطاب'، فكان أول قتيل فى صفوف الكافرين إلى جهنم وبئس المصير، واشتد القتال فى بصورة لم يرها المسلمون فى بداية المعركة،حتى وصل 'بنو حنيفة إلى خيمة 'خالد بن الوليد' نفسه، وكان مجاعة أسيراً بها ومعه 'أم تميم' زوج 'خالد بن الوليد'، وهموا أن يقتلوها فمنعهم مجاعة وأجارها منهم، وشعر المسلمون بالضغط الرهيب فنادى 'خالد بن الوليد' فى الناس :'امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حى، ولنعلم من أين نؤتى' .
** {وهذا من ذكاء القائد المسلم الفطن الذى يستطيع تحفيز جنده وقت الأزمات وإثارة حماستهم وهممهم بطريق مشروع} .
وهنا انطلقت بطولات رائعة، وهاكم طائفة من مشاهد المعركة :
كان الصحابى الجليل 'ثابت بن قيس' حامل لواء الأنصار قد رأى انهزام المسلمين أمام المرتدين، فحفر لنفسه حفرة حتى وسطه، ولبس كفنه وتحنط، ثم قال :'بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين، اللهم إنى أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء يعنى المرتدين وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء يعنى المسلمين' ثم قاتل حتى استشهد .
قال زيد بن الخطاب – أخو عمر بن الخطاب : 'لا نحور بعد الرجال، والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم أو أقتل، فأكلمه بحجتى، غضوا أبصاركم، وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا فى عدوكم، وامضوا قدماً' واستمر فى القتال حتى استشهد رحمه الله .
قال 'أبو حذيفة بن عتبة' : 'يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال'، وقاتل حتى استشهد، كما تمنى يوم أن قال للرسول صلى الله عليه وسلم كلمة فى ساعة غضب يوم غزوة بدر، وغضب منها الرسول فاعتذر منها 'أبو حذيفة'، ثم قال 'ما أنا بآمن من تلك الكلمة التى قلت يومئذ ولا أزال منها خائفاً، إلا أن تكفرها عنى الشهادة' فنالها رحمه الله .حمل الراية بعده 'سالم' مولاه فقال له المسلمون :'نخشى أن نؤتى من قبلك' فقال :'بئس حامل القرآن أنا إذاً'، وتقدم وقاتل رضى الله عنه وأرضاه ...اشتد المسلمون فى القتال، ودارت رحاهم على 'مسيلمة' ومن حوله، وتذمرت بنو حنيفة، وقاتلت قتالاً رهيباً دفاعاً عن العصبية، وعلم 'خالد بن الوليد' أن الحرب لا تركد إلا بقتل 'مسيلمة'، ولم تحفل 'بنو حنيفة' بمن قتل منها، وقال 'خالد' :'هل من مبارز؟' فقام له العديد من الأبطال فبارزهم وقتلهم جميعاً، ثم دعا 'خالد''مسيلمة' للحوار، وعرض عليه عدة أشياء ليوافق على الصلح، والعودة إلى الحق والإسلام، وكان 'لمسيلمة' شيطانه الذى يستشيره فكلما عرض عليه 'خالد'شيئاً لوى 'مسيلمة' عنقه ليستشير شيطانه الذى رفض كل العروض، وأثناء الحوار أدرك 'خالد :' أن وراء 'مسيلمة' شيطاناً فلن يقبل أبداً بأى عرض أو توبة،فانقض 'خالد' ومن معه على معسكر 'مسيلمة'، وشد عليهم فى القتال شدة عظيمة جعلت 'مسيلمة' يفر هو و'بنو حنيفة'، وكان يقود 'بنو حنيفة' رجل اسمه 'محكم اليمامة' فنادى :'محكم اليمامة' فى 'بنو حنيفة' قائلاً :'عليكم بالحديقة، عليكم بالحديقة' .
حديقة الموت
كانت أرض اليمامة أرضاً زراعية، بها الكثير من البساتين والحدائق والحقول، وكانت بمثابة ريف الحجاز عموماً، وكان 'لبنى حنيفة' حديقة هائلة، لها أسوار عالية، وأبواب حصينة يلجأون إليها وقت الأزمات، فلما دارت عليهم رحى المسلمين فى الحرب وطعنتهم، وعضهم القتل فروا جميعاً إلى الحديقة، وهناك دارت فصول معركة أشبه بالأساطير، وأطلق على تلك الحديقة بعدها حديقة الموت، لكثرة من قتل بها من 'بنى حنيفة' .
عندما دخلت بنو حنيفة الحديقة أغلقوا على أنفسهم البواب، وحار المسلمون ماذا يفعلون ؟
وكان فى جيش المسلمين رجل من طراز فريد، أشبه ما يكون بالرجل الخارق الغير عادى، وهو الصحابى الجليل مجاب الدعوة 'البراء بن مالك' وكان من الشجاعة والإقدام بمكان لا يوازيه أحد من الناس وقتها، ولا حتى 'خالد' أو 'الزبير' أو 'على'، ومن شدة شجاعته وإقدامه كان الخليفة يوصى ألا يجعلوه على قيادة الجيش حتى لا يهلكهم من شدة إقدامه، وكان 'البراء بن مالك' إذا حضرت الحرب أخذته رعدة، حتى يقعد عليه الرجال، ثم يبول وربما على نفسه، فإذا بال ثار كالبركان العاصف والأسد الهادر، فلما وصل المسلمون إلى حديقة الموت أخذته تلك الرعدة فلما بال قال للمسلمين :'يا معشر المسلمين ألقونى عليهم فى الحديقة' فقالوا : 'لا نفعل' فقال : 'والله لتطرحنىعليهم' ولك يا أيها المسلم أن تتخيل هذا المشهد الفريد من نوعه : الصحابى ' البراء بن مالك' محمول على ظهر ترس على أسنة الرماح، حتى يصل إلى سور الحديقة العالى، ثم ينقض كالصاعقة المحرقة من السماء على المرتدين، وهم فى الحديقة، وعددهم أكثر من ثلاثين ألفاً، وفى يديه سيفان يضرب بهما يمنة ويسرة كالإعصار، حتى فتح الباب للمسلمين .
**تلك هى البطولة الحقيقية، والأمجاد التى يجب أن نعلمها ونفخر بها، لا بطولات الوهم والخداع السينمائى التى ألهت بها آلة الإعلام الصهيونية شبابنا وبناتنا عن امجادهم الخالدة .
دخل المسلمون الحديقة، ودارت رحى حرب طاحنة داخلها، واستمات المرتدون فى القتال، ولكن أنى لهم أن يقفوا أمام أسد الإسلام التى افترستهم، وأنزلت الهزيمة الساحقة عليهم .
ونأتى للحظة الخالدة التى كفر فيها 'وحشى' العبد الحبشى عن جريمته الشنعاء يوم أن قتل بحربته سيد الشهداء 'حمزة بن عبد المطلب'، وقد خرج إلى هذه المعركة وهو يضمر هذه النية، وقد تحين الفرصة لقتل 'مسيلمة الكذاب' ودخل الحديقة، ورقب موضع 'مسيلمة' حتى رآه، وهز حربته كالمعتاد، حتى رضى عنها، وقذفها كالبرق وقد كتب على نصلها دم هذا الكذاب اللعين، فوقعت فى قلب 'مسيلمة' وخرجت من ظهره، وفى نفس الوقت كان الصحابى 'أبو دجانة' البطل المشهور، صاحب العصابة الحمراء قد ضرب رأس 'مسيلمة' بالسيف، فاشترك الاثنان فى قتله، وبقتل 'مسيلمة' انهارت قوى 'بنى حنيفة' وانهزموا، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، وأنزل الله بنصره على المؤمنين، وكبت المرتدين، وبعدها تابت بنو حنيفة وعادوا للإسلام مرة أخرى بعد هذه المعركة التى كانت أعنف معركة خاضها المسلمون فى تاريخهم حتى سنة 11 هجرية وكانت سبباً مباشراً لجمع القرآن، لكثرة من استشهد فيها من حملة القرآن، وقد قتل من المسلمين يومها ألف رجل معظمهم من المهاجرين والأنصار، فى حين قتل من المرتدين خمسة عشر ألفاً أى أن كل مسلم قتل أمامه خمسة عشر مرتداً،قال تعالى {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} سورة المنافقون 8 .
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.