وفاة ابن قدامة المقدسي صاحب ( المغني)

الزمان/ السبت 1 شوال - 620هـ

المكان/ سفح جبل قاسيون – دمشق - الشام

الموضوع/ وفاة الشيخ موفق الدين ابن قدامة إمام الحنابلة المقدم .

الأحداث:

مفكرة الإسلام : هو الإمام الزاهد المجاهد شيخ الإسلام وأحد الأعلام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة وينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولد ببلدة جماعيل من أعمال نابلس بفلسطين في شعبان سنة 541هـ ولما بلغ الثامنة من عمره استولى الصليبيون على البلاد المباركة وكانت قبل ذلك تحت حكم الفاطميين العبيديين فهاجر والد الموفق بأسرته إلى دمشق التي كانت حصن الإسلام في الشام سنة 551 هـ ونزلوا في مسجد أبي صالح ثم انتقلوا بعد ذلك إلى سفح قاسيون من صالحية دمشق وأسس أبوه داراً كبيرة لأهله عرفت بعد ذلك بدير الحنابلة , وكان صاحبنا الموفق خلال هذه الفترة وعلى صغر سنه مشتغلاً بحفظ القرآن ومبادئ العلوم ومتون المذهب خاصة مختصر الخرقي الذي شرحه بعد ذلك في كتاب صار سبباً لشهرته عبر الآفاق .

أول ما تلقى الموفق العلم كان على يد والده الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن قدامة وكان من أهل العلم والصلاح وكان قبل هجرته خطيب جماعيل وفقيهها ثم تتلمذ الموفق على شيوخ دمشق وما زال يتقدم في العلم وتهذيب النفس حتى بلغ العشرين فقام بين سنتي 560هـ و561هـ برحلة علمية إلى بغداد يصحبه ابن خالته الحافظ عبد الغني فأقام الموفق وعبد الغني عند شيخ الحنابلة وقدوتهم عبد القادر الجيلاني في مدرسته وكان الجيلاني قد بلغ التسعين من عمره ولكنه كان مازال متمتعاً بحواسه فقرأ الموفق وعبد الغني عليه مختصر الخرقي قراءة فهم وتدقيق وتوسم الجيلاني فيهما خيراً فأنزلهما في مدرسته ولم يكن يسمح لأحد أن ينزل فيها ولكنه ما لبث أن توفى بعد أربعين يوماً فقط فدخل الموفق على شيخ حنابلة العراقي بن المنى فتفقه عليه وأخذ عنه المذهب ومسائل الخلاف والأصول ومكث في بغداد أربع سنين سمع فيها من علماءها ومحدثيها وخلق كثير من أعلامها وفقهاءها ثم عاد إلى دمشق سنة 567هـ ثم خرج لرحلة علمية إلى أرض الحجاز فدخل مكة فحج وسمع من علماءها والمدينة وسمع من محدثيها ثم عاد إلى دمشق سنة 575هـ وعمره أربعة وثلاثين سنة .

عندما استقر الموفق في دمشق بعد رحلاته هذه سار الموفق على طريقين الأول هو الاشتغال بتصنيف كتابه الكبير المغني على مختصر الخرقي والطريق الآخر التدريس لطلبة العلم الذين أقبلوا عليه من أنحاء الشام للنهل من علومه وكان يجلس للدرس من الضحى حتى الظهر ثم بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر ومن بعد العصر حتى المغرب ثم يقوم بإحياء ما بين صلاة المغرب والعشاء بالسنن يصلى أربع ركعات يقرأ فيها حوالي الجزئين من القرآن وكان مجلسه عامراً بالفقهاء والمحدثين وأهل الخير .

كان الشيخ الموفق يعقد يوم الجمعة حلقة في جامع بني أمية بدمشق يناظر فيها بعد الصلاة في كل مسائل العلم ومشاكله وكان لا يناظر أحداً إلا وهو يبتسم حتى قال بعض الناس 'هذا الشيخ يقتل خصمه وهو يبتسم' وكان في مناظراته يجعل النصوص الشرعية هي الحكم بينه وبين مناظريه ولا يدخل معهم في جدل أهل الكلام والمراء ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام ولو بالرد عليهم , وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيرها لا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبادات ويأمر بالإقرار والامرار لما جاء في الكتاب والسنة على عقيدة السلف .

أما عن مصنفات ابن قدامة فلقد كان له مؤلفات ومصنفات كلها جليلة كتب لها الذيوع والانتشار عبر الأقطار وعمل في مصنفاته على التدرج من طلبة العلم الشرعي حتى يصلوا إلى أعلى الدرجات العلمية فألف العمدة في الفقه للمبتدئين ثم المقنع في الفقه للمتوسطين والذي شرحه العلماء في عدة شروح منها شرح زاد المستقنع للحجاوي والروض المربح للبهوتي وآخرهم الشرح الممتع للعثيميين ثم الكافي في الفقه وهو للعمل بالدليل ثم جاء درة كتبه وأشهرها على الإطلاق 'المغني على شرح مختصر الخرقي' وهو لطلبة العلم المجتهدين للخلاف العالي وأثنى على هذا الكتاب الكثير من العلماء منهم سلطانهم ابن عبد السلام الذي قال 'لم تطب نفسي بالإفتاء حتى صار عندي نسخة من المغني' وقال أيضاً 'ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل المحلى لابن حزم والمغني لابن قدامة على جودتهما وتحقيق ما فيهما' وله مؤلفات في أصول الفقه ومصطلح الحديث والأصول والعقائد والزهد والرقائق ولم يترك باباً من أبواب الفقه إلا صنف فيه وأجاد وانتشرت هذه المصنفات بحسن نيته وسلامة قصده وانتفع بها المسلمون عموماً وأهل مذهبه خصوصاً .

كان الموفق رغم علمه وانقطاعه للتدريس ونشر العلم إلا أنه كان من كبار المجاهدين في سبيل الله وإخوته وآل بيت المقادسة ولما حشد صلاح الدين يوسف الأيوبي جيوش الإسلام لقمع الصليبيين واسترداد الأرض المقدسة كان الموفق وأخوه أبو عمر وشباب أسرتهما ونجباء تلاميذ هذا البيت من أوائل من تطوع للجهاد ضد الصليبيين وكان لهم خيمة خاصة بهم حتى أن الموفق أصيب في القتال ضد الصليبيين في كتفه إصابة بالغة ولكنه شفي منها وكان موضع تقدير واحترام من صلاح الدين وأخيه العادل .

أما عن ثناء الناس عليه فلقد أفاض الناس والعلماء والمؤرخون في الثناء على ابن قدامة بما هو أهله , قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية 'ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق' وقال عنه المؤرخ سبط ابن الجوزي 'كان الموفق إماماً في فنون كثيرة ولم يكن في زمانه أزهد ولا أورع منه وكان كثير الحياء عزوفاً عن الدنيا وأهلها هيناً وليناً متواضعاً محباً للمساكين حسن الأخلاق جواداً سمحاً من رآه كأنه رأى بعض الصحابة وكأنما النور يخرج من وجهه' .

وقال ابن النجار ' كان موفق الدين إمام الحنابلة وكان ثقة حجة نبيلاً غزير الفضل كامل العقل شديد التثبت دائم السكوت حسن السمت نزيهاً ورعاً عابداً على قانون السلف على وجهه النور وعليه الهيبة والوقار ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه'.

وقال مؤرخ الدولة الأيوبية ابن شامة 'كان الشيخ الموفق إماماً من أئمة المسلمين وعلماً من أعلام الدين في العلم والعمل جاءه الملك العزيز بن العادل يزوره مرة فوجده يصلي فجلس بالقرب منه حتى فرغ الموفق من صلاته ولم يخفف فيها عما اعتاده ثم فرغ منها واجتمع مع العزيز , وكان إذا فرغ من صلاة العشاء الآخرة يمضي إلى بيته ويصطحب معه الفقراء لإطعامهم' .

وقال الحافظ ضياء الدين المقدسي 'كان الموفق رحمه الله إماماً في القرآن وتفسيره وإماماً في علوم الحديث ومشكلاته , وإماماً في الفقه بل أوحد زمانه فيه , إماماً في علم الخلاف , أوحد زمانه في علم الفرائض إماماً في النحو وأصول الفقه والحساب ومنازل النجوم , ولما قدم بغداد وتعلم قال له شيخه ابن المنى اسكن هنا فإن بغداد مفتقدة إليك' .

قال الإمام ابن غنيمة 'ما أعرف أحداً في زماني أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق' , وقال الشيخ عبد الله اليوينني المعروف بأسد الشام 'ما أعتقد أن شخصاً ممن رأيته حصل له من الكمال في العلوم والصفات الحميدة التي يحصل بها الكمال سواه فإنه رحمه الله كان كاملاً في صورته ومعناه من الحسن والإحسان والحلم والسؤدد والعلوم المختلفة والأخلاق الجميلة والأمور التي ما رأيتها كملت في غيره' .

وكان للموفق كرامات كثيرة منها ما حكاه سبط ابن الجوزي عن ابن فضل الأعناكي قال 'قلت في نفسي لو كان لي قدرة لبنيت للموفق مدرسة وأعطيته كل يوم ألف درهم وبعد أيام جئت للموفق فسلمت عليه وقبل أن ينطق بكلمة نظر إلى وتبسم وقال 'إذا نوى الشخص نية كتب له أجرها' .

وكان عبد الله اليونيني يحبه ولكن يبغض الحنابلة لما يشاع عليهم من التشبيه والتقسيم فنوى أن يسأله يوماً عن التشبيه فذهب إليه وقبل أن يسأله عن شئ استدار له الموفق وقال له يا عبد الله التشبيه مستحيل فصعق عبد الله وقال له لما ؟ فقال الموفق لأن التشبيه لا يكون إلا عن رؤية ومن منا رأى الله عز وجل حتى يشبهه .

ومرض أبو الحسن بن حمدان الخزاعي يوماً مرضاً شديداً أقعده سبعة عشر يوماً لا يتحرك من مكانه حتى تمنى الموت فزاره الموفق وقرأ عليه آيات من القرآن ومسح على ظهره فأحس بالعافية وقام من مكانه على الفور ثم ذهب فصلى الفجر وراء الموفق الذي صافحه وعصر يده قائلاً له 'احذر أن تقول شيئاً لأحد' فقال أبو الحسن 'بل أقول وأقول' .

ظل الموفق يقضي حياته كلها بين علم وتدريس وتصنيف وجهاد وإمامة وخطابة وكلما تقدم به السن كلما إزداد علماً وعملاً وأخلاقاً وزهداً في الدنيا حتى صار يعد من كبار أئمة المسلمين في العبادة والتقوى والفقه والحديث وغيرها من فروع العلم , وكان له أولاد ذكور وإناث ماتوا كلهم في حياته ولم يعقب من أولاده سوى ولد يقال له عيسى خلف ولدين صالحين وماتا فانقطع عقبه ولئن كان انقطع عقبه من الأولاد فلم ينقطع عقبه وأثره من العلم الذي ضرب فيه بشوط بعيد وخلف ورائه تراثاً حافلاً من العلم ما زال ينتفع بها الناس حتى وقتنا الحالي وقد حضرته الوفاة يوم السبت 1 شوال سنة 620 هـ وكانت جنازته حافلة ودفن في مغارة التوبة بسفح جبل قاسيون وقد رؤيت له منامات صالحة تدل على حسن خاتمته.

56--Zeddni[1]

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © الماسة