وفاة الأمير الثائر يعقوب بن الليث الصفار الملقب بالسندان

الزمان/ 19 شوال - 265هـ

المكان / الأهواز ـ بلاد ما وراء النهر.

مفكرة الإسلام : دائمًا يواجه الدعاة لدين الله عز وجل بالعقبات التي تعترض طريق دعوتهم المباركة لأن هذا الطريق ليس ممهدًا ولا رحبًا لسالكيه بل هو طريق شامخ وطويل كله تعب ونصب ولكن آخره رفقة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا احتج بعض الدعاة بكثرة الصعاب فلابد أن يعلموا حقيقة هامة ألا وهي أن الصعوبة ولافتة فوق الإمكانيات ما هي إلا سور وهمي يضعه الداعية من عند نفسه ولو كان عنده عزيمة صادقة وإرادة قرية وهمة عالية، ما وقف في طريقه شيء ويحقق مراده بإذن الله ثم توجه له رسالة عبر صفحات التاريخ لرجال سمت بهم نفوسهم وارتقت بهم هممهم العالية حتى صاروا إلى أعلى الدرجات، ذلك رغم أن سعيهم كان للدنيا ودعاة الإسلام وطلاب الآخرة أولى من هؤلاء بالسعي والهمة العالية، وصفحتنا هذه لتنشيط الذاكرة وتحمس الدعاة وإذكاء لعزائمهم وهمهم، وهي لواحد انتقل من الدنيا إلى العلا وأوشك أن يملك الخلافة بأسرها لولا قدر الله عز وجل فيه.

هو البطل الشجاع والقائد الهمام يعقوب بن الليث الصفار الذي كان يعمل في بداية حياته هو وأخوه عمرو في صناعة الصفر [الأواني النحاسية]، وكان من الزهاد الذين عندهم شجاعة وقوة فائقة وذلك بمدينة سجستان [إيران الآن] وكانت هذه المدينة على حدود الدولة الإسلامية وبها الكثير من المشاكل لوجود عدوين لدودين على مشارفها العدو الأول هم كفار الترك، والآخر هم الخوارج أصحاب الشكيمة والشدة في القتال، ولكن في هذه الفترة رجل اسمه صالح بن النضر الكناني كان من الأبطال الذين يحاربون الخوارج وكفار الترك فقاد صالح جموع المتطوعين للقتال ضد هذين العدوين والمتطوعين هم الذين يقاتلون تطوعًا في سبيل الله دون مقابل مثل الجنود النظاميين، فالتحقق يعقوب للقتال مع صالح وحظي عنده بفضل شجاعته حتى صار يعقوب في مقام خليفة صالح، وفي معركة ضد الخوارج قتل صالح فتولى مكانه رجل آخر اسمه درهم بن الحسين، ولم يكن مثل صالح فاحتال عليه أمير خراسان وقبض عليه وحمله إلى بغداد حيث سجن فيها، فصار يعقوب بن الليث هو أمير المتطوعين، الذين أحبوه وأطاعوه لشدة ذكائه وحسن سياسته وزهده أيضًا.

قام يعقوب بن الليث بمحاربة الخوارج فأوقع بهم هزيمة مهولة كادت تفنيهم جميعًا وخرب قراهم وقطع دابرهم بتلك البلاد واشتدت شوكته وكثر جمعه حتى رضي عنه أهل سجستان أميرًا عليهم فغلب على سجستان وأخرج عاملها منها وأظهر يعقوب أنه ما زال على طاعة الخليفة وأن الخليفة قد أمره بقتال الخوارج، وضبط يعقوب البلاد، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وأخذ على يد المفسدين فكثر أتباعه وراسله أهل مدينة هراة وبوشنج في أن يأتي إليهما ليتولى عليهما ذلك لأن ولاة أمور المدينتين عجزوا عن صد هجمات الخوارج الذين أكثروا بأهل البلاد القتل والنهب فسار إليها يعقوب وعرض على الولاة تسليم المدينتين لحفظهما ولكنهم رفضوا وقاتلوه فانتصر عليهم وملك المدينتين فصار تحت إمرته سجستان وهراة وبوشنج وذلك سنة 254 هـ .

تفرغ يعقوب بعد ذلك لقتال كفار الترك واستطاع أن يفتح [الرخج] وقتل ملكها وأسلم عشر رجلاً وابتنى على جبل عال بيتًا وسماه مكة وكان يدّعي الإلهية، فقتله يعقوب وأراح الناس من شره، ثم افتتح بعدها بلاد الخلج وزابل فاتسعت أملاك يعقوب وخافه العدو والصديق.

لما رأى الخليفة المعتز تنامي قوة يعقوب بن الليث أراد أن يستفيد منها فكتب كتابًا ليعقوب يوليه به أمر إقليم فارس وكان عليه رجل اسمه علي بن الحسين تغلب على الإقليم وتباطأ في حمل خراجه للخليفة، فأمر يعقوب بالسير لعلي بن الحسين فأرسل علي بن الحسين جيوشًا كثيفة بقيادة طوق بن المفلس، وكان يعقوب شديد الدهاء استطاع أن يخدع طوقًا إليه راجعًا وقطع مسافة طويلة في يوم واحد، واخذ طوقًا وجيشه كله أسرى ووجد يعقوب في جيش طوق في رفاهية وليونة فخلع يعقوب خفه وأخرج منه كسرة خبز يابسة وقال لطوق [يا طوق هذا خفي لم أنزعه منذ شهرين من رجلي وخبزي في خفي منه آكل وأنت جالس على الشرب] .

بعد هذا الانتصار سار يعقوب للقاء علي بن الحسين نفسه واستطاع أن ينتصر عليه ويأخذه أسيرًا رغم أن جيش علي بن الحسين كان أضعاف أضعاف جيش يعقوب وبينهما خندق ونهر عميق لا سبيل لعبوره إلا بشدة وكان علي بن الحسين وجيشه يضحكان من يعقوب وجنوده حتى فوجؤا أن يعقوب قد ألقى كلبًا في الماء وعام هو وجنوده خلف الكلب الذي سلك لهم في طريق سهل من النهر فعبروا لجيش علي بن الحسين الذي وقعت عليه صاعقة من هول المفاجأة فهربوا في كل مكان واستولى يعقوب على إقليم فارس وأرسل بهدايا ثمينة للخليفة المعتز فقرره على ولاية ما يملك.

كانت بلاد ما وراء النهر تسمى كلها بخراسان على اتساعها وكان أمراء خراسان منذ عهد المأمون طاهر بن الحسين وأبناءه وأحفاده حتى أن آل طاهر يعتبرون أول دولة خرجت من بطن الخلافة العباسية حيث كانت أيديهم مطلقة على هذه الأراضي كلها ولكنهم يدينون بالطاعة للخليفة العباسي، وقد ضعفت قبضتهم على خراسان لكثرة الخارجين وكثرة ثورات الخوارج ووجود خصم قوي في بلاد طبرستان هو الحسن ابن زيد العلوي الذي أسس دولة علوية خلعت طاعة العباسيين بالكلية في تلك البلاد، كل هذه الأمور شجعت يعقوب الصفار صاحب الهمة العالية والطموح البعيد أن يعمل على الإطاحة بآل طاهر من خراسان والقضاء على دولة الحسن بن زيد العلوي في طبرستان، وبالفعل قرر يعقوب البدء بآل طاهر خاصة أن أهل نيسابور عاصمة خراسان قد كتبوا له يطلبون منه القدوم لضبط البلاد والأمور والتصدي للخوارج، فسار إليها يعقوب واستولى عليها في شوال سنة 259 هـ ، وأزال الدولة الطاهرية وفض اللواء الذي كان المأمون قد عقده لطاهر بن الحسين لما ولاه خراسان سنة 207 هـ ، وبعد ذلك بسنة استطاع يعقوب أن ينتصر على الحسن العلوي ويأخذ طبرستان مه، وهرب الحسن منه فأصر يعقوب على تتبعه ، ولكنه تعرض لعاصفة معطرة عند جبال طبرستان، أهلكت معظم جيشه، واستطاع بقوة عزيمته وصبره ودهائه أن يخرج من شرك نصب له هناك لو دخله لهلك ومن معه جميعًا ثم أرسل يعقوب للخليفة المعتمد يخبره بما وقع من الحوادث والانتصارات التي حققها على المقايضين .

لم تكن فتوحات وأفعال يعقوب الصفار مما تعجب السلطات ورجال الدولة الذي توجسوا خيفة من قوة الدولة الذي توجسوا خيفة من قوة يعقوب الصفار وتنامى نفوذه وكان على رأس هؤلاء الأمير الموفق أخو الخليفة المعتمد ورجل الدولة الأول وقائد الجيوش الذي حاول شن حرب دعائية على يعقوب الصفار، وجمع الحجيج الوافد من كل البلاد فيما وراء النهر وأخبرهم أن الخليفة غير راض عن أفعال يعقوب ولما لم تأت هذه الدعاية بشيء لجأوا للحيلة فأعلنوا أن المعتمد قد ولى يعقوب بن الليث خراسان وأقاليمها كلها وأقامه مقام آل طاهر.

كانت هذه الولاية سببًا لتغيير نية يعقوب الصفار تجاه ما يفعل وجنح به طموحه إلى درجة يصعب جدًا تحقيقها لأنه ازداد طمعًا وجرأة فأرسل يرد على خطاب توليته بأنه لا يرضى بذلك حتى يصير إلى باب السلطان ليخدم الخليفة بنفسه وفطن رجال الدولة وعلى رأسهم الموفق لما يريد يعقوب وشعروا أن الرجل يطمح في الاستيلاء الفعلي على بغداد وبلاد العراق فرفضوه طلبه بشدة فأعد يعقوب جيوشًا جرارة وقرر السير لبغداد وخرج الخليفة بنفسه يقود جيوشه أخوه الموفق وعند مدينة الموصل اصطدم الجيشان ودارت موقعة هائلة كان الظفر فيها أولاً لجند يعقوب الصفار ولكنهم تخاذلوا ودخلهم الوهن لما رأوا أنهم يقاتلون الخليفة وجهًا لوجه وخافوا من عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة فانفصل معظم جيش يعقوب عنه وتركه وحده مع القليل من خلصاءه فانهزم يعقوب هزيمة شديدة وفر عائدًا إلى فارس، ولم ينتقض أمره بل حفظ البلاد على عادته.

عندما عاد يعقوب من قتال الخليفة ثقل عليه المرض وكانت علته القولون فأمره الأطباء بالاحتفاء بالدواء فلم يفعل واختار الموت على ذلك، وكان الخليفة المعتمد قد أرسل له رسولاً ليستميله ويترضاه ويجعله على [فارس] لعلم الخليفة بقوة يعقوب وعلو همته وحزمه وضبطه للبلاد والأمور فدخل عليه الرسول وهو مريض فوجده عنده سيفًا ورغيف خبز يابس وبصل ثم قال يعقوب للسفير [قل للخليفة أنني عليل فإن مت قد استرحت منك واسترحت مني وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف حتى آخذ بثأري أو تكسرني وتعقرني وأعود إلى هذا الخبز والبصل].

ثم ما لبث أن مات هذا الفارس الشجاع الملقب بالسندان لثباته وشجاعته وعقله الراجح صاحب الطموح الذي جمح به بعد أن انقادت له المعالي حتى راودته نفسه بالخلافة فكانت نهايته كما علمنا ولا عزاء للكسالى والنائمين على البُسط .

806029[1]

ليست هناك تعليقات:

جميع الحقوق محفوظة © الماسة