الزمان / 29 رمضان – 622هـ
المكان / بغداد العراق
الموضوع / وفاة الخليفة العباسي الناصر لدين الله أطول من حكم من العباسيين.
الأحداث :
مفكرة الإسلام : إنها قصة حياة خليفة كان يعتبر من أذكى وأقدر من عرفتهم الخلافة العباسية وكان به من الصفات الإدارية والتنظيمية ما يؤهله لئن يكون أقوى خليفة عباسي ويعيد للخلافة مجدها الضائع ، ولكنه من الناحية الأخلاقية لم يكن على المستوى الإسلامي المطلوب، وقد جاء الرجل في غير عصره وتولى والزمان مدبر وحكم في عصر انهارت فيه القيم الأخلاقية في عالم الحكم والقيادة، ولم تبح هو من تلك الآفات فكان متآمرًا ومخادعًا وجريئًا وقاسيًا ومع أن الكثير من هذه الصفات وجدت في الكثيرين من خلفاء بني العباس قبله إلا أنها ظهرت فيه بشكل أوضح وأقوى .
هو الخليفة الناصر لدين الله أحمد بن المستضيئ المكنى بأبي العباس ولد سنة 553 هـ وأن أم ولد تركية اسمها زمرد تولى الخلافة بعد موت أبيه سنة 575 هـ وهو شاب في الثانية والعشرين من عمره، وكان فيه صفات الخلافة من القوة والحزم مع القسوة والدهاء الشديد وشدة الاهتمام بمصالح الملك لذلك فقد توسع جدًا في استخدام الجواسيس وأصحاب الأخبار في العراق وسائر الأطراف حتى كان يتجسس على الناس في بيوتهم لمعرفة أحوالهم حتى مآكلهم ومشاربهم حتى أنه من سعة إطلاعه شك الناس في كونه يأتيه رئي من الجن حتى أن مؤرخ الإسلام الذهبي قال عنه [إن الناصر كان مخدومًا من الجن] وشاع ذلك عنه وسط الناس وعبر البلاد حتى خافه الناس عامهم وخاصهم ملوكهم ومملوكيهم، وقد ملأت القلوب خوفًا منه ورعبًا حتى أن أهل الهند ومصر كانوا يرهبونه كما يرهبه أهل بغداد، وكان الملوك والأكابر بمصر والشام إذا جرى ذكره في خلواتهم خفضوا أصواتهم هيبة وإجلالاً.
كان الناصر عكس سائر الخلفاء العباسيين على مذهب الشيعة الإمامية عدا المأمون فإنه كان يميل إليهم ولكن لا يعتقد اعتقادهم بالكلية أما الناصر فلقد كان شيعيًا على مذهب الإمامية لذلك فإن الشيعة هم الذين روجوا الشائعات عنه أنه يعلم الغيب وكلوا عنه الأساطير لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم الغيب فوجدوا في الناصر خلتهم فبالغوا فيه وعظموه وصاروا مخلصين له لذلك نجده يصدر مرسومًا سنة 580 هـ جعل بمقتضاه شهد موسى الكاظم أمنًا لمن لاذ به فالتجأ إليه خلق من الفساق وممن وجبت عليهم الحدود فلم يستطع أحد أن ينالهم وهو بذلك جعل مشهد الكاظم تمامًا مثل الكعبة البيت الحرام.
حاول الناصر أن يستعيد ما كان للخلفاء العباسيين أيام قوتهم، وتمكن بالفعل من إعادة السلطان الفعلي للخليفة العباسي في بلاد العراق، وبعض بلاد الجزيرة، ولكنه مع ذلك لم يتعد سلطانه حدود الموصل، وقد استعان الناصر في تحقيق طموحاته بجماعات من الصوفية المجاهدين وأنشأ نظامًا جديدًا للقوة التي هي أقرب ما يكون لنظام الكشافة والجوالة في عصرنا هذا، وكانت فرق الفتوة قد نشأت في مناطق كثيرة من العواصم والثغور ثم أصبحت نظامًا فروسيًا انتسب إليه الكثيرون وكانت هذه الفرق تتخذ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب المثل الأعلى في البسالة والإيمان والأخلاق واحتمت فرق الفتوة بالفروسية والمصارعة والشرف والنظام فما زال الناصر يسعى حتى جعل نفسه رئيسًا لهذا النظام، وجعل لأفراده ملابس خاصة تسمى سراويل الفتوى واشتغل بعدها برمي البندق والصيد والعبث والعهد الباطل، وأصبح معيار الطاعة عنده من يوافق على أن يلبس سراويل الفتوة الخاص بفرقته ومن امتنع عاداه وخاصمه، وكان لا يبالي بمن يحالف ويتعاهد في سبيل تحقيق طموحاته من ذلك أنه أراد أن يسيطر على بلاد ما وراء النهر المعروفة بعجم العراق فتحالف من أجل ذلك على فرقة الحشاشين المنحرفة ليغتال خصومه ومعارضيه .
اتسعت شهرة الناصر ودانت له السلاطين، ودخل في طاعته من كان من المخالفين وذلت له الطغاة حتى خطب له ببلاد الأندلس والصين وكان أشد بني العباس شديد الهيبة شهي شجاعًا ذا حنكة سياسة كبيرة، وله حيل ومكائد وخدع لا يغطي إليها حتى أنه يوقع الصداقة بين ملوك متعادين وهم لا يشعرون، ويوقع العداوة بين ملوك متفقين وهم لا يفطنون ، وكان الناصر إذا أطعم أشبع وإذا ضرب أوجع وله مواطن يعطي فيها عطاء من لا يخاف الفقر .
كان الناصر مهتمًا جدًا في وسط ولايته برواية الحديث واستناب نوابًا في الإجازة عنه والتسميع وأجرى عليهم جرايات وكتب للملوك والعلماء إجازات وجمع كتابًا فيه سبعون حديثًا وأجاز الناصر برواية الحديث لجماعة فكانوا يحدثون عنه في حياته ويتنافسون في ذلك رغبة في الفخر لا في الإسناد .
وقع بين الناصر والسلطان علاء الدين خوارزم خلاف شديد بسبب رفض الناصر طلب خوارزم مال خطبة له ببغداد باعتباره الوريث الشرعي لملك السلاجقة ، وهذا لم يعجب الناصر الذي كان منفردًا بالحكم بالعراق، وكان خوارزم أهوجًا متسرعًا فقرر الهجوم على بغداد وإزالة الخلافة العباسية كلها وذلك سنة 615هـ فخرج من خراسان بجيش مهول يفوق عدده المائتي ألف مقاتل، وفي نيته إزالة العباسيين للأبد وعندما وصل إلى مدينة همذان وقع عليهم شبح عظيم كثيف متصل لمدى عشرين يومًا، وذلك في غير أوانه فرد الله كيده وعاد خاسرًا لبلاده خاصة أنه قد ظهرت الطامة الكبرى المعروفة باسم المغول فأخذوا بلاده فكان هذا سببًا في ارتفاع مكانة الناصر في قلوب الناس وظنوا أنه منصور من الله عز وجل.
قال ابن الأثير عن الناصر أنه كان رديء السيرة في الرعية مائلاً إلى الظلم والعسف وفارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم وأملاكهم وكان يفعل أفعالاً متضادة وخربت بلاد العراق في عهده، مما أحدثه من الرسوم والضرائب وكان مشغولاً في اللهو والعبث واللعب بالحمام ورمي البندق، أما أعظم ما يرمى به من قيل عنه أنه هو الذي كتب يستقدم التتار ويغريهم للخروج إلى بلاد الإسلام ليردوا عنه السلطان علاء الدين خوارزم وإن صح ذلك عنه فيعد ذلك من أعظم ما جناه على المسلمين وأمة الإسلام لأن هؤلاء التتار قد حطموا ودمروا بلاد المسلمين وفعلوا معهم ما لا يوصف من الوحشية والبربرية، ولكن صدق هذا الرواية محل شك لأنها صادرة من مؤرخي التتار والعجم الذين كانوا يحاولون تبرير خروجهم إلى بلاد المسلمين خاصة أن سبب خروج التتار معروف للجميع وهو رفض خوارزم تبعيته لجنكيز خان.
ظل الناصر في الخلافة طيلة سبعة وأربعين سنة ولم تزل مدة حياته في عز وجلالة وقمع الأعداء واستظهار على الملوك ولم يجد ضيمًا ولا خرج عليه خارجي إلا قمعه ولا مخالف إلا دمغه وكان الناصر حريصًا على صحته فكان يحمل له الماء من خارج بغداد ويغلي عدة مرات ويحفظ حتى يشربه وهو نقيًا ومع ذلك أصيب بالبواسير والحصاوي حتى شقوا ذكره عدة مرات لإخراج الحصى منه وقل بصره في آخر عمره حتى ذهب بالكلية ولم يشعر بذلك أحد من الرعية حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية قد علمها الخط بنفسه فكانت توقع على المناشير نيابة عنه، وذلك من شدة حزمه ودهائه حتى مات بالدوسنتاريا وقد جاوز السبعين وبقي معطلاً ثلاث سنوات حتى مات وترك ورائه تركة مثقلة والكثير من المتاعب لمن بعده .
ليست هناك تعليقات:
لا يسمح بالتعليقات الجديدة.