قال الله تعالى { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا } [آل عمران:103] وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ} [الحج:78] والاعتصام بالله تعالى يأتي بعد الاعتصام بحبله فدرجة الأول أعلى وأرقى من الثاني, الاعتصام بحبل الله طريق البداية, والاعتصام بالله هو درجة الإحسان, الاعتصام بحبل الله هو سلوك الطريق إلى الله للمبتدئين والاعتصام بالله هو غاية التحقيق للمنتهين, الاعتصام بحبل الله هو منهج الحياة والاعتصام بالله هو غاية العبد ومنتهاه , الاعتصام بالله سبحانه وتعالى يأتي بعدما تنتهي من الاعتصام بحبله, فالاعتصام بحبل الله هو اتخاذ الوسائل واستعمال الأسباب كما أمر الله والاعتصام بالله هو استنجاح المقاصد من الله والاعتماد في حصول النتائج على الله . وحبل الله كما ورد عن عبد الله بن عباس وابن زيد ومقاتل وابن قتيبة رضي الله عنهم قالوا: دين الله وقالوا: القرآن, وقد وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرآن الكريم بأنه حبل الله في كثير من الأحاديث منها قوله: إن هذا القرآن مأدبة الله فأقبلوا من مأدبته ما استطعتم إن هذا القرآن حبل الله والنور المبين والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن تبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد رواه ابن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك (741/1) برقم (2040).عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقال صحيح الإسناد فهذه صفة من صفات القرآن أنه حبل الله المتين: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [آل عمران:103- 104].والاعتصام بحبل الله يكون في كل المستويات وعلى جميع الأصعدة نتشارك فيه جميعا وذلك بالإيمان والعمل، بامتثال الأوامر وترك النواهي، بأن يكون القرآن هو منهج الحياة الذي نسير عليه جميعا، بأن يكون هوالمعيار، وهو الآمر الناهي، وهو الذي نخضع لأحكامه مهما تكن، وهو الذي بيننا وبين العالمين، هو الذي رضيناه حكما بيننا { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء:65] ليس فيها درجات ولذلك جاء الأمر الإلهي للجميع بقوله: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. أما عند الأمر بالاعتصام بالله فالأمر يختلف فإنه سبحانه وتعالى يقول في أول الآية: { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78].
فقدم قبل الأمر بالاعتصام بالله الأمر بالإسلام والإيمان والعمل فقال { وَجَاهِدُوا } { فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } { وَآَتُوا الزَّكَاةَ } وكذلك دائما فلابد من العمل وهذا هو الاعتصام بحبل الله فحبل الله: الأوامر والنواهي, والدين هو حبل الله, والقرآن حبل الله المتين, ثم قال: { وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ } فالأول: الاعتصام بحبل الله، والثاني الاعتصام بالله ولذلك عبر في آية آل عمران بكلمة جميعا عندما ذكر حبل الله فلابد للكل أن يعتصموا به التزاما بالإيمان بالله والجماعة، وعدم التفرق، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على كل المستويات، لكن لم يقل هنا ( جميعا ) لأن هؤلاء أهل درجة الإحسان العليا الذين قال الله فيهم: { ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآَخِرِينَ } [الواقعة:13-14] فهذا القرآن من عند الله لا يستطيع أحد أن يؤلفه أو شيئا منه ولو امتدت به الأزمان والأحقاب لأنه مازال إلى اليوم يفتح مغاليقه, { سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ } [فصِّلت:53]. والاعتصام بالله: هو الترقي عن كل موهوم والتخلص من كل تردد: لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله وهذا العالم بأجمعه وتفصيله عالم لا حول فيه ولا قوة لأنه عالم حادث مخلوق ولأنه عالم فإنه غير باق ولأنه عالم محتاج إلى غيره ولأنه له بداية وله نهاية ولأنه ليس مقصودا لذاته إذا وضعنا هذا في مقابلة الله الباقي القدير الأول الآخر الظاهر الباطن الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير فأين الموهوم وأين الحقيقة؟ الحقيقة الثابتة: الله, وأما الموهوم فهو هذا الذي نظن ولا نعرف الغيب فيه, ولا نقدر على أمر أنفسنا ولا ندري كيف ننام ولا كيف نقوم, فما هذا؟ موهوم, فإذا ترقيت من الموهوم إلى الحقيقي فقد بدأ نور المعرفة يصل إلى قلبك وأصل طريق الله المعرفة. هناك من يقول: أصل طريق الله المحبة, وعندنا المحبة وسيلة وعمل من الأعمال نعمله لنصل إلى المعرفة, فالمعرفة بالله هي الكنز الكبير والمعرفة هي أساس الصلاة والصوم والزكاة, الحقيقة هي الله تعالى الذي من أجله نصلي، ومن أجله نحب، ومن أجله نكره، ومن أجله تكون أعمالنا كلها. والذي في قلبه شك لا يصل إلى المعرفة, الذي في قلبه شك لم يعتصم بالله, لأن العصمة معناها الحماية و( اعتصم ) يعني ( احتم ) ومن احتمى بالله تحصن أي: أصبح في حصن وملاذ ومأمن .