وبعد ما قدمنا من حقيقة الجهاد في الكتاب والسنة, نقول إن الحرب دائما تخلف الخسائر في الأرواح والجرحى ومشوهي الحرب إضافة إلى تراجع القيم الإنسانية وفساد المعتقدات وانحراف الإنسان عن مراد الله من خلقه وقد كانت الحروب والصراعات منذ القدم. والفساد وسفك الدماء أسباب إرسال الله للرسل, إنزال الله للكتب, وكانت هذه هي الوظيفة الأساسية لكل الديانات السماوية, وعملت تلك الأديان على إنقاذ البشرية من ظلمات الجهالة, وأدخلت في قلوبهم الإيمان والطمأنينة من خلال تعاليمها السماوية وسلوك المؤمنين بها لما للدين من تأثير كبير علي السلوك والفكر والشعور, ولقد تجلى هذا التأثير واضحا في التراث الإسلامي كما يمكن ملاحظته من خلال التأثر الهائل في الحياة اليومية للمسلمين, فالإسلام منهج حياتي وميثاق شرف ونظام قانوني يتخلل حياة المسلم بكافة وجوهها. فالإسلام الحنيف جاء إلى البشرية ليخرجها من الاستبداد والجور, ويأخذ بيدها نحو العدالة والأمان, لا أن يرمي بها في متاهات البطش والعنف التي لا يجني منها سوى الويلات والآهات.ودعوة الدين الإسلامي للسلم والسلام العالمي صريحة وواضحة وليس هناك أبلغ من قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء:107]ٍ في هذا البيان القرآني البليغ الذي ساقه الله سياق الخبر, هذا الخبر الذي تحلى بأقوى أساليب الحصر والقصر, فالله ينفي كل الأغراض التي قد يتوهم المشككون أنه صلى الله عليه وسلم أرسل من أجلها, فمن توهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله لقتل الناس, أو لسرقة أرضهم وممتلكاتهم, أو لسفك الدماء ـ حاشاه الله ـ يفسد ظنه, ويخيب رجاؤه الخبيث عندما يقرأ هذه الآية.بل إن الله أمر بالسلام والدخول فيه صراحة في كتابه العزيز فقال سبحانه:{يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} [البقرة:208].وقال جل شأنه: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} [الأنفال:61] وفي السنة كانت كذلك دعوة الإسلام للسلام صريحة فعن عمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاثة من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنفاق من الإقتار والإنصاف من نفسك وبذل السلام للعالم, (رواه الطبراني في الكبير, وذكره البخاري تعليقا). ومقارنة بما ذكر من وحشية في الحروب, وسفك الدماء وخراب ودمار للبلاد والعباد من حروب المعتدين, نجد أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم نظيفة من هذه التهم بل إن تحركاته العسكرية التي بلغت نحو ثمانين غزوة وسارية فكانت كلها بسبب دفع الظلم ورد العدوان ولم يحدث القتال الفعلي في كل هذه التحركات سوى في سبعة مواقع فقط في سيرته صلى الله عليه وسلم أثناء نشره للدعوة الإسلامية.كما أنك ستلاحظ أن هذا الانتشار الإسلامي تميز أيضا بخصائص منها: عدم إبادة الشعوب, ومعاملة العبيد معاملة راقية بعد تعليمهم وتدريبهم وتوليتهم الحكم في فترة اشتهرت في التاريخ الإسلامي بعصر المماليك, والإبقاء على التعددية الدينية من يهود ونصارى ومجوس حيث نجد الهندوكية على ما هي عليه وأديان جنوب شرق آسيا كذلك, وإقرار الحرية الفكرية فلم يعهد أنهم نصبوا محاكم تفتيش لأي من أصحاب الآراء المخالفة, كما اتسمت بالعدل في توزيع ثروات الدول التي دخلها الإسلام فقد ظل إقليم الحجاز مصدر الدعوة الإسلامية فقيرا حتى اكتشاف البترول في العصر الحديث. وقد شهد بهذه الحقيقة كثير من غير المسلمين في العصر الحديث, فالمفكر لورد هدلي يقف مندهشا عند معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للأسرى من المشركين في معركة بدر الكبرى, ملاحظا فيها ذروة الأخلاق السمحة والمعاملة الطيبة الكريمة, ثم يتساءل: أفلا يدل هذا على أن محمدا لم يكن متصفا بالقسوة ولا متعطشا للدماء؟ كما يقول خصومه, بل كان دائما يعمل على حقن الدماء جهد المستطاع, وقد خضعت له جزيرة العرب من أقصاها, وجاءه وفد نجران اليمنيون بقيادة البطريق, ولم يحاول أبدا أن يكرههم على اعتناق الإسلام, فلا إكراه في الدين, بل آمنهم على أموالهم وأرواحهم, وأمر بألا يتعرض لهم أحد في معتقداتهم وطقوسهم الدينية. يقول الفيلسوف الفرنسي وولتر: إن السنن التي أتى بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم كانت كلها قاهرة للنفس ومهذبة لها, وجمالها جلب للدين المحمدي غاية الإعجاب ومنتهى الإجلال, ولهذا أسلمت شعوب عديدة من أمم الأرض, حتى زنوج أواسط إفريقيا, وسكان المحيط الهندي. وهذا توماس كارليل, يقول: الأبطال وعبادة البطولة إن اتهامه ـ أي سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتعويل على السيف في حمل الناس على الاستجابة لدعوته سخف غير مفهوم, إذ ليس مما يجوز في الفهم أن يشهر رجل فرد سيفه ليقتل به الناس, أو يستجيبوا له, فإذا آمن به من يقدرون على حرب خصومهم, فقد آمنوا به طائعين مصدقين, وتعرضوا للحرب من غيرهم قبل أن يقدروا عليها.وفي الختام نؤكد ضرورة السلم والأمن كأساس مهم من أسس التقدم في المجتمعات الإسلامية, والله نسأل أن يجعل أيامنا كلها سلاما وأمانا, وأن يتقدم المسلمون في كل مجالات الحياة, وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين