الشبهة :
في القرآن نَهْجَان مُتَبَاينان مختلفان في التَّعَامُل مع الْمُخَالفين، فبينما تجد السُّور المكية تُحَذِّر من إيذاء غير المسلمين تَجِدُّ السُّور المدنية تنسخ حكم هذه الآيات - وإن بقيت للتلاوة فقط - وتُبِيحُ دماء الْمُخَالِفين، وتأمر بالقتال والعُنْفِ معهم. فكيف يوفِّق المسلم بين هذه الآيات، المكي والمدني؟ السِّلْمِيِّ والحربي ؟ الرد عليها قسم الأبحاث الشرعية بدار الإفتاء المصرية يستطيع الباحث - إذا نظر نظرة كُلِّيَّة لآيات القرآن الكريم- أن يتَّضِحَ أمامه تكامل المنهج القرآني في التعامل مع المخالف، وأن اختلاف أساليب التعامل مع المخالفين ليس راجعًا إلى تناقض منهجي، بل إلى اختلاف درجة التعامل باختلاف سلوك من تُعَامله، فالناس ليسوا على درجة واحدة، ولا ينبغي أن يُؤْخَذُوا بميزان واحد، وإنَّ من الظُّلْمِ المنهجي أن يلجأ من يفهم النصوص إلى تعميم ما قصد تخصيصه، أو إطلاق ما قصد تقييده .درجات الناس:
فكما أنك واجد في الناس من يُوَافِقُ أفكارك، تَجِدُ فيهم من يختلف معك، وهؤلاء فيهم مَنْ يكتفي بأن يَعْرِض رأيه أو عقيدته، وفيهم من يتجاوز ذلك فيتعدَّي على من يُخَالفه، ومن ثَمَّ فالتعامل مع من يختلف ويتعَدَّى غير التعامل مع مَنْ لم يتعد.التعامل بالحسنى لا يدخله نسخ:وقد جاءت في القرآن آيات كثيرة تأمر المسلم بالتعامل الْحَسَن مع الْخَلْق، يستوي في ذلك ما تَنَزَّل في مكة وما تنَزَّل في المدينة، مما يُنْبِئُك أن مردَّ هذا الأمر ليس إلى أن هذا مكي وذاك مدني، بل إلى أن هناك أصنافًا من الناس يُتَعَامل معهم بالحسنى، وآخرون الأحسن أن يُتَعامل معهم بالقوة.ومن ذلك أن قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة :109] إنما هو من سورة البقرة، وهي سورة مدنية، وكذلك قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة :256].وقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء :90].وقوله تعالى:{ لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ } [الممتحنة :8] كل هذه آيات مدنية تدعو إلى التعامل الرَّحيم الرفيق بالخلق تُبَيِّنُ أن المسألة ليست مسألة مَكِّي ومدني. ليسا نَهْجَيْنِ مُخْتَلِفين، بل نهجان متكاملان:إذًا هما نَهْجَان مُتَكَامِلان يُعالِجَان حالتين من التَّعامُلِ مع البشر: الحالة الأولى: وهي الشَّأْنُ العادي للمسلم أن يتعامل مع الخلق بالْحُسْنَى، وأن يجعل الحوار هو أساس تعامله مع الناس، وهذا هو أساس الدعوة المحكم، ولذا قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة :83].وقال تعالى مُبَيِّنًا للدُّعاة درجات الدعوة الْمُخْتَلِفة باختلاف الْمَدْعُوِّين: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل :125] وقال: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام :108].وقال في شأن أهل الكتاب: {وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46].الحالة الثانية: وهي حالة ما إذا اعْتُدِي على المسلم، عندئذ فإنه لا مَنَاص من رَدِّ العدوان والدفاع عن النفس، قال تعالى: {الشَّهْرُ الحَرَامُ بِالشَّهْرِ الحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة :194].
إننا لسنا ممن يُقَسِّمُ النَّاس إِمَّا معنا أو علينا - كشأن بعض الدول التي تتعامل مع الآخر بهذه الطريقة - بل علَّم الإسلامُ المسلمَ أن الناس درجات، وأن التَّعَامل معهم درجات، وأنه ينبغي أن يُوضَع التَّعامل الْمُنَاسب في الوقت الْمُناسِب مع الشَّخْصِ الْمُنَاسِب